*هزي من الأعماق، يا عاصفة الهزيمة/ عالمنا الشائخ/ فليدمر الإعصار كل التحف
القديمة/ ناسا وأفـكارا / ليحرق لهب الثورة كل أراضينا/ كي لا تـحاك، من جـديد،
فوقها مهزلة/ كي لا تعاد، من جديد، فوقها جريمة..* - من قصيدة لسالم جبران
********
الشمس تتكوم في وسط السماء، يبدو أنها لا تنوي التزحزح. بقع من العرق أخذت تلون قميصه الأبيض. أشعل سيجارة، نفث الدخان بقوة، كسر عود الثقاب بين أصابعه وبحركة خفيفة من أصبعه أودى بقسميه إلى بعد أمتار قليلة.
حركاته غريبة، انعكس ذلك بسرعة في ذهنه. قبل ان يخرج في مهمته وقف طويلا أمام المرآة، يختبر نفسه وقدرته على ضبط أعصابه. زملاؤه نبَّهوه ان لكل خطوة قيمة، وان للوقت نصيبا كبيرا في النجاح، وان للتخطيط والدراسة السهم الأكبر في نجاح المهمة.
اصطدم حذاؤه الأسود اللامع بحجر فأحس بقلبه يخفق.. أحس بالدماء تبرد في شرايينه وإفرازات العرق البارد ترطّب كلَّ جسده.
الحقيبة اليدوية السوداء ما تزال منكمشة تحت إبطه، أمر يدعو للاطمئنان.. في "البروفة" الأخيرة أمام المرآة سار كل شيء بالتفاصيل حسب الخطة، ما باله الآن يتعثر ويضطرب حتى في تفكيره؟!
في الأسبوع الماضي قام بتمرين عملي ووصل إلى الهدف بسهولة، كان يرتدي نفس الملابس ويحمل نفس الحقيبة.. إنما بدون الكتلة الباردة التي بداخلها.
انحرف في سيره نحو اليمين، توقّف قليلا ونظر خلفه.. لماذا فعلت ذلك؟..
لا جواب!! في الأسبوع الماضي عندما قمت بالتمرين لم تفعل هذا يا محترم؟ طاردته فكرة هي أقرب إلى الصورة..
الحربة لم تحترم السنتين فشطرته نصفين، أراد ان يصرخ، أن يبكي، أن يحتج، غير انه لم يجد وقتا لذلك.. فاستسلم... كتلة من اللحم والدم... على ذراعها الباردة. غير انه لم ير ذلك... لو رأى ذلك..؟
كان ساعتها في منطقة القتال.. وقبل ان يصطدموا بالعدو أمرتهم القيادة بالانسحاب. أصدر قائد الفرقة أوامره بالانسحاب، غير ان أحد الضباط رفض الانسحاب متِّهما مصدِّري الأوامر بالخيانة.. أصر قائد الفرقة على تنفيذ أوامره وهدد بإعدام كل متمرد.. أجاب الضابط على أوامر قائده بثلاث رصاصات مزقت جمجمة القائد فلم يجد بدا من معانقة الأرض.. لم يتحرك احد من سائر الضباط.. كانت تلك إشارة صامتة إلى رفض الانسحاب. ذلك الضابط رجل باسل، قاد فرقتهم وعرقل تقدم العدو أكثر من عشر ساعات، لم يستسلم.. سوى ان للأشياء طبيعة أقوى من الرغبات، الطائرات أبادت نصفهم ودمّرت الكثير من معداتهم، وخسروا بالهجمات المتكررة لأسلحة العدو الثقيلة قسما آخر.. كان الضابط مستعدا للقتال حتى بالأسلحة البيضاء، استعملوا كل ذخائرهم. ولم يستسلموا بالمعنى الحرفي للاستسلام، لكن لم يتبق بأيديهم ما يصدون به الهجمات الشرسة، طلب منهم الضابط ان يتفرقوا والقيام بأعمال فردية لضرب جنود العدو، قال لهم: "قاوموا المحتل بأسلوب حرب الأنصار".. القيادة العليا كما قال لا تريدنا ان نقاتل.. تفرقوا تنفيذا لأمره مسلحين بالسلاح الشخصي والقليل مما تبقى من ذخائر.. لكن الضابط نفسه رفض ان يغادر وبقي وحيدا ليتصدى لهجمة الدبابات .. من البعيد شاهدوا احتراق عدد من الدبابات.. بعدها لم يعرفوا شيئا عن مصيره، إلا أنهم أيقنوا انه استشهد وهو يقاتل!!
اتجه في سيره نحو اليسار.. عليه الآن ان يضبط أعصابه وأحقاده، وان يبدو طبيعيا.. كان يؤلمه انه لم يبق مع ذلك الضابط ليقاتل ويستشهد إلى جانبه.. لكنه أوكل لهم مهمة قبل موته..
عندما اجتاز النهر التقى بالكثيرين من سكان قريته.. ولم يجد زوجته وطفله.
حدثه أحد أقربائه بعد تردُّد وهو يجهش ببكاء مرّ، ان زوجته رفضت ان تترك البيت حسب أوامر جنود الاحتلال... فمزقت بضع رصاصات أحشاءها درسا لمن يتردد بتنفيذ أوامر جنود الاحتلال، والجندي كان إنسانا فشفق على الطفل ابن السنتين ان ينمو يتيما وحاقدا على قتلة والدته.. خاف من الحقد المطلق الذي سيحمله هذا الطفل في دمه عندما يكبر، فحسم الأمر بأن جرب حدة حربته بجسم الطفل الطري.. فشطرته إلى قسمين، تكوم على أثرها فوق ذراع أمه الباردة.
خبط الأرض بعصبية... قذف بعقب السيجارة ثم داسها بعصبية كأن بينهما حقد متأصِّل.. ووجد نفسه يطلُّ على الميدان العام.
إلى الجهة اليمنى يقع الهدف.. الحربة لم تحترم الطفولة.. حرمته من أثمن كنز له.. أروع أمنية رزق بها.. يقتله الشوق ليسمع قهقهة طفله مرة أخرى..ليرى ابتسامته البريئة.. ليحمله بين ذراعيه.. يعانقه .. يلقّمه المصاصة حين تقع.. يمسك بيده وهو يخطو سعيدا ..
صمم ان يقطع حبل أفكاره وتخيلاته.. عندما قام بعملية التجربة سار كل شيء على ما يرام.. لم تقلقه تلك الأفكار وتفجر بداخلة غضبا أشبه بقنبلة شديدة الانفجار.. بضع خطوات ويصبح بالداخل، جاء من أجل الحصول على تصريح.. ذلك أمر يفعله عشرات المواطنين يوميا.
جندي يعترض طريقه، هذا أمر بالغ السوء، لماذا يشعر بالخوف؟! الحربة شطرته بالنصف.. الجندي يشير إلى الحقيبة ويرطن ببضع كلمات عربية، القرية سويت مع الأرض.. والحربة مازالت ملطّخة بالدم... هذا أمر بالغ السوء... "انزل يدك عن الحقيبة.." لا يعرف هل قالها بصوت مرتفع؟ كاد ينفجر بغضب لولا انه تمالك نفسه، شعر ببرودة البندقية تعترض طريقه.. "كل ما هنالك اني أريد تصريحا" همس لنفسه بصوت مرتفع.. "الحقيبة ؟... تحوي أوراقي الشخصية" ربما لم يفهم الجندي ما قاله له، يصر ان يفحص محتويات الحقيبة... جندي آخر اثأر اهتمامه ما يجري بين زميله وذلك الرجل مع الحقيبة التي يرفض ان يفتحها للتفتيش. تقدم مسرعا نحوهما.. "وقع بالفخ.." همس لنفسه.
فكرة جهنمية تسيطر عليه وتشلّ باقي أفكاره.
ما العمل؟
الحربة.. الطفل.. الزوجة.. والقرية التي سويت مع الأرض، وأنت بقيت وحيدا.
حتى قبر لتبكي فوقه طفلك وزوجتك لم تحظ به.. الضابط قاتل وحيدا ولم يستسلم.. كان بإمكانه ان ينسحب وقد يصل إلى رتبة جنرال.. اختار شرفه العسكري .. وهو؟ وأنت؟...
هل تكون أقلَّ شانا؟
كان الهدوء شبه تام ولا تمزّقه إلا أصوات السيارات التي تمر قرب مدخل بناية تحولت لمقر المحتلين. الشمس في موقعها سوى أنها أكثر حرارة كما يتهيّأ له.
أخذ يعالج الحقيبة ليفتحها والجنديان ينتظران لرؤية محتوياتها.
مضى منذ قرر التوجُّه إلى المبنى ربع ساعة تقريبا...
هل يستطيع ان يجري من هنا إلى مكتب المسؤول العسكري دون ان تصرعه الرصاصات؟
جندي ثالث يتقدم نحوهما.. تمهّل حتى صار قريبا..
ثلاثة مقابل واحد...
الآية معكوسة هذه المرة!!
لا بأس...
انتم انتصرتم ونحن هزمنا...
اصابعه تمتد بخفة داخل الحقيبة... لتخرج محتوياتها.. الحربة لم تحترم الطفولة..
الزوجة قتلت.. همس لنفسه "ليرحمهم الله ويرحمني معهم".
انفجار هائل .. اهتزت العمارة الضخمة.. توقفت السيارات.. تصاعد دخان.. تضرجت الأرض بالدم.. والأشلاء... وانتهى كل شيء في لحظات.. وصوت الانفجار أخذ يتلاشى شيئا فشيئا.. عن أربع جثث ممزقة...
_____________
موسكو(15-10-1968) نشرت في جريدة "أنباء موسكو" في أوائل 1969 nabiloudeh@gmail.com