كان يعتني بشاربه كثيرا ويحمل حقيبة صغيرة بها عدة أدوات لتهذيب الشارب، وهيئته توحي بأنه أحد الباشاوات قبل إلغاء الألقاب ، يتكلم بنبرة آمرة فقد اعتاد أن يكون رجًلا عسكريا صارما على مدار عقود ، فهو من عائلة جعلوها بشكل أو بآخر من ملّاك البلاد ، تملك من الأرض ما لا يملكه سواها دون أن تشتري مترا واحدا ، وكنت أحيانا أردد مازحا : على هذه العائلة أن تصنع تمثالا للحاج فهمي الحسيني رحمه الله والذي له أفضال لا تحصي على بعض عائلات غزة .
المهم أن الباشا لم يكن بحاجة للوظيفة العسكرية ولا للمنصب الرسمي إلا من باب الوجاهة والنفوذ ، فلديه من المال ما لا يجعله يومًا صاحب حاجةٍ أو عوز .
تقاعد رجلنا المبجل من الوظيفة فزاد اعتناؤه بشاربه وذلك لزيادة وقت الفراغ لديه ، أتى بحرّاسٍ للبيت ، ألبسهم زيًا رسميا ، وزّعهم بشكل تكتيكي داخل أسوار العزبة التي يملكها في حيٍ راقٍ في المدينة ، ولا يمكن أن تجلس مع الباشا إلا بعد استئذان وفحص وتدقيق ، وتسليم سلاحك للحرّاس ، وعليك أن تقرأ "قل أعوذ برب الفلق" و " قل أعوذ برب الناس " وتتحوقل ، ذلك أن مولانا متطيّر يخشى الحسد ويجعل الناس يرقونه بأنفسهم خشية أعينهم الحاسدة ! .
في زيارة اضطرارية للباشا رأيت العجب ، حراس يحومون ويأتون ليبلغوه بالتفاصيل التي تدور حول أسوار البيت من الخارج وحركة كثيفة جعلتني أشعر أني في بيت الرئيس ، ولم أعد أعرف الجمعة من الخميس ، وحين خرجت مع رفقتي من حضرته ، قلت : سبحانك ربي إذ بَلَوْتَ الباشا بهوس الحرّاس والوسواس ، وهو المنسي من ذاكرة الناس ! .
*****
(2)
قرض القصيدة والزجل ، صاغ المقالة والمقامة ، كتب الرواية والدجل ! ، وفي غفلةٍ من الأدباء صار صاحبنا شهبندر الأدب ، في بلادٍ غاب عنها الأدب .
ومع نفاد المخزون لدى صاحبنا المجنون ، بات يغرق في التكرار ، حتى نفر منه الزوّار ، فسافر على عجل ، يبتاع بعضا من أمل ، لكنه عرف المفيد ، واكتشف بطلان الرصيد ، أفلس ، صار على الحديد .
عاد إلى البلاد لا يملك فكرا بدينار ، ولا حضورا بدرهم ، لكنه الشاطر ، على التدبير بقادر ، عمل في ترويج الكلام ، حتى جمع ثمنا لعِمامة ، ارتداها واحترف الإمامة ، صار يخطب في الناس ، يهجو المهاجرين تارة ، وأخرى يذم الأنصار ، حتى عاد نجمه يلمع في انتصار ، وأصبح شهبندر التجار !.
إن كتب قصيدةً في مدح مسيلمة هتف الجمهور : الله أكبر، سيزول الحصار ! ، وإن ذمّ أبا جهلٍ صرخوا نشوةً : عشت يا شيخ التجار ، عشت يا هادي الكفار ! .
وعلى هذا الحال جلس الأدباء على أطلال الأدب ، يبكون ما حلّ بالديار .
*****
(3)
نشأ في عائلة ضعيفة ، ليس لديها المال أو العزوة ، اضطُهِد واستقوى عليه أبناء الجيران ، استضعفوه وأهانوه .
إذ جاء زمانٌ على بلادنا استبدت فيه سطوة العشائر ، وافترى القوي على الضعيف ، وانتهكت العائلات الأقوى حرمة عائلات أضعف وأقل عددا وقوة ، فنال صاحبنا ما ناله من أذى ومهانة ، وكان يبلع الكلام كالحصى والأذية كالعلقم .
حدث الطوفان ، وغرقت البلاد في دمها ، فوقع في يده إكسير القوة ، وأمسك بمجداف السلطة، فاستولى على قوارب الآخرين وأغرقها ، ركب موجته العاتية التي انتظرها طويلا ، وانتقم من كل من أذوه ، فبدا كحملٍ أضحى ذئبًا.
التقيته في عزاء أخيه الذي راح ضحية الطوفان ، وجدته يصول ويجول مزهوًا في خيلاء ، والتف حوله بعض الفتيان يلقي إليهم بأوامره متعمدا أن يسمعني ذلك ، ثم تقدم نحوي وعانقني وهمس : الأيام دول يا رجل .
قلت : بلى ، فلكل زمان دولةٌ ورجال ، وسبحان مغيّر الأحوال ، من حالٍ إلى حال .
قمت بواجب العزاء ومضيت خارجا إلى عزاء الدنيا الكبير ! .
*****
(4)
عُرِفَت عنه الشدة والجرأة ، كُلِّف بمهامٍ عدّة ، تحتاج لرجال زنودهم من حديد ، وكان أهلا لها ، حتى عندما اختاروه في أمرٍ خطير عبر البحار أغلق فمه وأجاد كتم السر .
بعد أن أصبحت البحار لا حاجة لها ، والبحارة لا عمل لهم ، انقطع عنه المال وساء لديه الحال ، فأصبح تاجرًا ، يقنع هذا ويحاجج ذاك ، حتى أصبح مشهورا بالجدارة ، معروفا بين أهل التجارة ، سمسارا يملك الشطارة ! .
لجأ إليه أحد التجار الكبار ليشتري قطعة أرضٍ كبيرة من صاحبها الممتنع عن البيع ، فكان له ما أراد ، أخذ المال ووعد بأن يقضي الأمر في الصباح .
ليلا أخذ زوجته والعيال في نزهة كما زعم وقال ، وصل الحدود المصرية ، ناولهم بعض العصير مخلوطا بشيء خطير ، فاستيقظوا في العريش ، من حولهم ثيابٌ من ريش .
واختفت آثار ثائرنا المغوار ، الذي أضحى مليونيرا بغلطةِ حمار ! .
*****
(5)
منذ صباه ، حمل مكبرات الصوت في كافة التظاهرات الشعبية العارمة ضد الاحتلال ،تعرض للضرب والاعتقال ، ضحى بكل شيء من أجل مبادئه الثورية ، مؤمنا بعدالة القضية ، مطالبا لشعبه بحق العيش والحرية.
كبر وكبرت أحلامه ، أصبح قائدا وطنيا يتقدم الجموع بعزم وقوة ، خطيبا مفوّها في كل منبر ، مناديا للتحرير بخيار البندقية .
ساوموه ، هدّدوه ، لم يهتز ولم يتراجع ، وأصبح مرفوضا من تجار الوطنية ، مطلوبا للاحتلال في كل زاوية ، فوشى به الجبناء ووقع في الأسر ، وما زال يردد : " يا دامي العينين والكفين إن الليل زائل ، لا غرفة التوقيف باقية ولا زرد السلاسل ".
والآخرون قابعون خلف مكاتبهم الوثيرة يستعرضون على الشاشات كروشهم المنتفخة ، وبزّاتهم الباريسية الأنيقة ، يقولون ما يؤمرون ، ويتشدقون بالحرية ! .