وقفَ أمامهم وأطلق صوته للعالم، في فضاءِ القاعةِ قائلاً:
رفرفة جناح فراشة في الماضي قد يؤدي إلى إعصار في المستقبل ،
أيها السادة : ربما كانت هذه العبارة من مقولات الفيزياء الحديثة ، لابأس ، ففي الأعوام القليلة الماضية كنتُ قد انتهيت فعلاً من بناء عقل جديد جعل من الصور الشعرية متوافقة مع نبضة الكون في جميع كتاباتي ، هدفي هو أن أخُرجكم من كهوف الكائنات المدجنة وأجعلكم تبصرون . هكذا بدأت فعلاً في إنتاج نصوصي التي تحاكي وجود الإنسان في الدقائق الثلاثة الأولى من الخلق .. سأذكر لكم اول مقطع كتبته ولكم الحكم :
في البدء كان الصمتُ ،
و الأعاصيُر في يد مفردة ،
تدورُ كانها جدائل طفلة أيتمها القدر .
ثم كانت الكلمة ،
فأنفجر إعصارُ في الفراغ،
تشضى إلى ألف لون بهيج ، إنطلقت في الفضاء ،
زهور وأغصان وأسماك، وغزلان
كنافورة غاضبة ، تنبع من فم ِ فوهة
هي نفسها نار وماء ،
بيضاء سوداء ،
كرات من الثلج وأخرى من اللهب تقاسمت العالم .
ربما ستقولون وأين الإنسان في هذا المقطع ؟ ولكم الحق أنا نفسي كنت أسأل هذا السؤال ، إلى أن تعلمت سر اللعبة ولعبتها بمهارة ولولا أنكم قبضتم عليّ أخيراً لكنت قد أتممت النقلة الآخيرة ولكان تكلل بالنجاح مشروع الثقافة الكونية ، ولكن كُتب على العظماء أن لايروا أعمالهم منجزة . مع ذلك سأخبركم بما أستطيع مع ان المشكلة دائماً ليست فيما نُريد ان نعرف ولكنها في صعوبة تصديقنا وتعاملنا مع ما عرفناه .
أيها السادة :
كل شيء بدأ وأنتهى في تلك الليلة عندما جلستُ في غرفتي بعد منتصف الليل إلى الطاولة لأكتب ما تعلمته في سنواتي الماضية ، جاء هذا القرار فجأة بينما كنت قد أيقنت بأنني ربما لن أكتب شيئاً عما عرفت .
نظرت إلى الآنية الزجاجية والتي أعتدت على ملأها بزهور راودتني في منامي ، فرأيت كأنما ظل يطبق عليّ من خلفي ، منعني خوفي من الإلتفات ، حبستُ الأنفاس ، ومرت دقائق كأنها الدهر ، ضاق صدري وضربتْ الريح بالنافذة أمامي ، رفرفتْ ستائري فوقي كشبح كئيب ، شيء ما منعني من القيام وإضاءة الغرفة ، ربما هو نفس الشيء الذي قال لي أكتب فكتبتُ بدون تردد :
أنا سيد الضياء
لي يدٌ سوداء تشعُ بياضاً ، أعرفُ كل شيء
عن الحجارةِ السوداء والبيوتِ البيضاء
لي جناحان أخفيهما تحت بدلتي الأنيقة
وهمسة من صلاة قديمة كنت أجيدها قبل الهبوط
أحبكم لأنكم عالمي
وفيكم خلاصي ،
فأنتم رهاني الآخير ،
الحب والخوف سلطتي ، والغواية
كل شيء مباح ، في عالم جميل أنا أميرهُ .
الهواء يضربُ بالنافذة ، يدي تكتبُ ما يوحى أليها ، ستائري ترقصُ رقصة عنيفة ، تمايلت الجدران أو هكذا ظننتُ ، رأسي ثقيل كأنهُ الجبال ، بركان إنفجر أو كاد ، حروفي تدخل وتخرج من البياض ، تلتف كأنها العاصفة . تطاير كل شيء حولي ، حروفي تحولت إلى قط بري حالك السواد ، رمقني بنظرة أزدراء ، أستجمع حقدهُ لينقض على ما تبقى لي من دهشة ، إنقلبت الطاولة ، أنا وزهوري وكتبي هوينا إلى الأرض كقطعة زجاج ، و قصائدي نزلت كمطر يتعثر بالظلام أو كشجرة تنفض رأسها في الخريف ، جلس على صدري وقد تحول إلى كتلة من لهاث ، غرز مخالبه الواحد تلو الآخر في رقبتي باحثاً عن بقايا كتاب لما يزل في الحنجرة ، لمعت أنيابه كسيوف القدر ، هلالان كالبرق يحزان رقبة السواد ، و بقايا الآنية المهشمة تغرس زجاجها في عري ظهري ، فلم اعرف أيهما أكثر أيلاماً مامضى أم ما سيأتي ، هي لحظات تقرر مصيري ، لبرهة فقط تخيلت ألآم المسيح وهو يُجلد بالسياط المطعمة بالسكاكين ، وأرواح الأولياء والقديسين تطوف من حولي ، تخبر عن نهاية سعيدة ، تلك اللحظات كانت كافية لأعرف بأني لن استطيع النهوض ومرت دقائق أخرى قبل أن أشعر بحرارة بركة الدم تحتي ، صنع القط من أوراقي المبعثرة في العدم زوارق صغيرة واطلقها في البركةِ الحمراء واختفى ، رست كل الزوارق بعيدا، إلا واحداً صار في يدي فضضته لأقرأ ما تبقى فيه من كلمات فكانت :
كلنا واحد في العدد
شجرة لها فروع
رجل يسير وحده في الطريق
ننادي عليه ولا يجيب
ينظر إلينا تارة وتارة إلى السماء
بعضنا فوق و بعضنا تحت ،
نور ينبت في ظلام
شمس تشرق من كلا الجانبين
قمر في المحاق ينادي
لاشرق ولا غرب ،
هو زيت ينير المكان ،
ضجت القاعة بأصوات الجالسين منذ الصباح الباكر ، ورأتفعت تطلب لي مزيداً من الوقت للكلام .
كم هو جميل أن يتعاطف معك من كان بالأمس يريد قتلك ، هذه مشكلتكم بني البشر تعيشون بالماضي لأنه مدونة أحداثه بالذاكرة . كانت هذه فرصتي الذهبية لأُعلن قضيتي للعالم ،
وقلت نعم سأُكمل :
أختفت العاصفة ، أبتلعت النافذة الهواء ، تمايلت ستائري بغنج ودلال ، راقبت عيني حمامة بيضاء ، تسللت مع خيوط الفجر لترفرف حولي ، قلت في نفسي هي ملك كريم جاء ليعلن نهاية العالم ، أو ربما بداية جديدة لعقل جديد ، غادرت الحمامة وتركت ريشها يرسم أشكالاً في الهواء ، مجرة تتباعد أجزاءها في قلب ذرة ، وصورة لي وانا على الماء ، وماء في كل قطرة منه عينان وأذنان ولسان يقول :
هو الحق ، واحدٌ ، ومرايا متقابلة
نتكرر على مدى السنين ، سنين كانها أفعى تأكل ذيلها
شريط يمرُ من العدم الى الأبد ،
الف لوحة تشكل لوحة واحدة
أبعاد ثلاث تغدو ألف بعد ، أجسادٌ تنحل في جسد
لعبة ٌ من التبلور ِ والذوبان .
ممد على ظهري ، جفت أخر شجرة من عروقي ،الغرفة فارغة ، الشمس مشرقة ، أختلطت أصوات العصافير بأصوات ضجيج بشري ، لا قدرة لي على الإلتفات ، لا أملك سوى عينان لا ترمشان ، أنتظرت علامة أخيرة أختم بها كتابي ، دخلت من النافذة فراشة تحمل في كل جناح نقش غريب ، يشبه خارطة العالم ولكن بقارة واحدة ، وقفت على أنفي وأنا بلا حراك فقلت أخر الكلام :
جناحُ فراشة ٍ أكبرُ من سماء .
ثلاث ضربات بالمطرقة هشمت صمت القاعةِ أخيراً ، بعد ان تلاشى الضجيج مع اخر كلمة قلتها ،و أنحبست الأنفاس فأعلن القاضي حكمه الآخير :
بالأعدام حكمت المحكمة على المتهم الماثل أمامكم ، لتجديفه بقانون الأجداد ومحاولاته الجادة لبناء عقل جديد .