وعن عبد الله بن عمرو عند أحمد قال : { بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض أعلى الوادي يريد أن يصلي قد قام وقمنا إذ خرج علينا حمار من شعب ، فأمسك النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكبر وأجرى إليه يعقوب بن زمعة حتى رده } قال العراقي : وإسناده صحيح .
ومن الأئمة أحمد بن حنبل فيما حكاه عنه ابن حزم الظاهري ، وحكى الترمذي عنه أنه يخصص بالكلب الأسود ، ويتوقف في الحمار والمرأة . قال ابن دقيق العيد : وهو أجود مما دل عليه كلام الأثرم من جزم القول عن أحمد بأنه لا يقطع المرأة والحمار . وذهب أهل الظاهر أيضا إلى قطع الصلاة بالثلاثة المذكورة إذا كان الكلب والحمار بين يديه ، سواء كان الكلب والحمار مارا أم غير مار وصغيرا أم كبيرا حيا أم ميتا ، وكون المرأة بين يدي الرجل مارة أم غير مارة صغيرة أم كبيرة إلا أن تكون مضطجعة معترضة
وقال ابن العربي : إنه لا حجة لمن قيد بالحائض ; لأن الحديث ضعيف . قال : وليست حيضة المرأة في يدها ولا بطنها ولا رجلها . قال العراقي : إن أراد بضعفه ضعف رواته فليس كذلك ; فإن جميعهم ثقات وإن أراد به كون الأكثرين وقفوه على ابن عباس فقد رفعه شعبة ، ورفع الثقة مقدم على وقف من وقفه ، وإن كانوا أكثر على القول الصحيح في الأصول وعلوم الحديث انتهى
وروي عن عائشة أنها ذهبت إلى أنه يقطعها الكلب والحمار [ ص: 16 ] والسنور دون المرأة ولعل دليلها على ذلك ما روته من اعتراضها بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم . وقد عرفت أن الاعتراض غير المرور . وقد تقدم عنها أنها روت عن النبي صلى الله عليه وسلم : { أن المرأة تقطع الصلاة } فهي محجوجة بما روت
ويمكن الاستدلال بحديث أم سلمة وسيأتي ما عليه . وذهب إسحاق بن راهويه إلى أنه يقطعها الكلب الأسود فقط ، وحكاه ابن المنذر عن عائشة . ودليل هذا القول أن حديث ابن عباس الآتي أخرج الحمار ، وحديث أم سلمة الآتي أيضا . وكذلك حديث عائشة المتقدم أخرج المرأة ، والتقييد بالأسود أخرج ما عداه من الكلاب
وحديث " أن الخنزير والمجوسي واليهودي يقطع " لا تقوم بمثله حجة كما تقدم فيه . وأن حديث عائشة المتقدم مشتمل على ذكر الكافر ، ورجال إسناده ثقات كما عرفت . وذهب مالك والشافعي وحكاه النووي عن جمهور العلماء من السلف والخلف ، ورواه المهدي في البحر عن العترة : أنه لا يبطل الصلاة مرور شيء
قال النووي : وتأول هؤلاء هذا الحديث على أن المراد بالقطع نقص الصلاة لشغل القلب بهذه الأشياء وليس المراد إبطالها . ومنهم من يدعي النسخ بالحديث الآخر " لا يقطع الصلاة شيء وادرءوا ما استطعتم " قال : وهذا غير مرضي ; لأن النسخ لا يصار إليه إلا إذا تعذر الجمع بين الأحاديث وتأويلها وعلمنا التاريخ وليس هنا تاريخ ، ولا تعذر الجمع والتأويل ، بل يتأول على ما ذكرناه ، مع أن حديث { لا يقطع صلاة المرء شيء } ضعيف انتهى
وروي القول بالنسخ عن الطحاوي وابن عبد البر ، واستدلا على تأخر تاريخ حديث ابن عباس الآتي بأنه كان في حجة الوداع وهي في سنة عشر وفي آخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم وعلى تأخر حديث عائشة وحديث ميمونة المتقدمين . وحديث أم سلمة الآتي بأن ما حكاه زوجاته عنه يعلم تأخره لكون صلاته بالليل عندهن ، ولم يزل على ذلك حتى مات خصوصا مع عائشة مع تكرار قيامه في كل ليلة ، فلو حدث شيء مما يخالف ذلك لعلمن به
وعلى تسليم صحة هذا الاستدلال على التأخر لا يتم به المطلوب من النسخ أما أولا فقد عرفت أن حديث عائشة وميمونة خارجان عن محل النزاع وحديث أم سلمة أخص من المتنازع فيه ; لأنه الذي فيه مرور الصغير بين يديه صلى الله عليه وسلم وحديث ابن عباس ليس فيه إلا مرور الأتان فهو أخص من الدعوى . وأما ثانيا فالخاص بهذه الأمور لا يصلح لنسخ ما اشتمل على زيادة عليها لما تقرر من وجوب بناء العام على الخاص مطلقا
وأما ثالثا فقد أمكن الجمع بما تقدم ، وأما رابعا فيمكن الجمع أيضا بأن يحمل حديث عائشة وميمونة وأم سلمة على صلاة النفل وهو يغتفر فيه ما لا يغتفر في الفرض ، على أنه لم ينقل أنه اجتزأ بتلك الصلاة ، أو يحمل على أن ذلك وقع في غير حالة الحيض . والحكم بقطع المرأة للصلاة إنما هو إذا كانت حائضا كما تقدم
وأيضا قد عرفت أن وقوع ثوبه صلى الله عليه وسلم على [ ص: 17 ] ميمونة لا يستلزم أنها بين يديه فضلا عن أن يستلزم المرور . وكذلك اعتراض عائشة لا يستلزم المرور ويحمل حديث ابن عباس على أن صلاته صلى الله عليه وسلم كانت إلى سترة ، ومع وجود السترة لا يضر مرور شيء من الأشياء المتقدمة كما يدل على ذلك قوله في حديث أبي هريرة ، " ويقي من ذلك مثل مؤخرة الرحل "
وقوله في حديث أبي ذر : { فإنه يستره إذا كان بين يديه مثل آخرة الرحل } ولا يلزم من نفي الجدار ، كما سيأتي في حديث ابن عباس نفي سترة أخرى من حربة أو غيرها كما ذكره العراقي . ويدل على هذا أن البخاري بوب على هذا الحديث باب ( سترة الإمام سترة لمن خلفه ) فاقتضى ذلك أنه صلى الله عليه وسلم كان يصلي إلى سترة .
لا يقال : قد ثبت في بعض طرقه عند البزار بإسناد صحيح بلفظ : " ليس شيء بسترة تحول بيننا وبينه " لأنا نقول : لم ينف السترة مطلقا ، إنما نفى السترة التي تحول بينهم وبينه كالجدار المرتفع الذي يمنع الرؤية بينهما ، وقد صرح بمثل هذا العراقي ، ولو سلم أن هذا يدل على نفي السترة مطلقا ; لأمكن الجمع بوجه آخر ، ذكره ابن دقيق العيد ، وهو أن قول ابن عباس كما سيأتي ، ولم ينكر ذلك على أحد ، ولم يقل : ولم ينكر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك يدل على أن المرور كان بين يدي بعض الصف ولا يلزم ذلك من اطلاع النبي صلى الله عليه وسلم لجواز أن يكون الصف ممتدا ولا يطلع عليه
ولا يقال : إن قوله : " أحد " يشمل النبي صلى الله عليه وسلم ; لأنه لا معنى للاستدلال بعدم الإنكار من غير النبي صلى الله عليه وسلم مع حضرته ، ولو سلم اطلاعه صلى الله عليه وسلم على ذلك كما ورد في بعض روايات الصحيح بلفظ : " فلم ينكر ذلك علي " بالبناء للمجهول لم يكن ذلك دليلا على الجواز ; لأن ترك الإنكار إنما كان لأجل أن الإمام سترة للمؤتمين كما تقدم وسيأتي ، ولا قطع مع السترة لما عرفت ، ولو سلم صحة الاستدلال بهذا الحديث على الجواز وخلوصه من شوائب هذه الاحتمالات لكان غايته أن الحمار لا يقطع الصلاة ويبقى ما عداه
وأما الاستدلال بحديث " لا يقطع الصلاة شيء " فستعرف عدم انتهاضه للاحتجاج ، ولو سلم انتهاضه فهو عام مخصص لهذه الأحاديث ، أما عند من يقول : إنه يبنى العام على الخاص مطلقا فظاهر ، وأما عند من يقول : إن العام المتأخر ناسخ فلا تأخر لعدم العلم بالتاريخ ، ومع عدم العلم يبنى العام على الخاص عند الجمهور
وقد ادعى أبو الحسين الإجماع على ذلك وأما على القول بالتعارض بين العام والخاص مع جهل التاريخ كما هو مذهب جمهور الزيدية والحنفية والقاضي عبد الجبار والباقلاني ، فلا شك أن الأحاديث الخاصة فيما نحن بصدده أرجح من هذا الحديث العام إذا تقرر لك ما أسلفنا عرفت أن الكلب الأسود والمرأة الحائض يقطعان الصلاة ، ولم يعارض الأدلة القاضية بذلك معارض إلا ذلك العموم وعلى المذهب الثاني ، وقد عرفت أنه مرجوح . وكذلك يقطع الصلاة الخنزير والمجوسي واليهودي إن صح الحديث [ ص: 18 ] الوارد بذلك ، وقد تقدم ما يؤيده ويبقى النزاع في الحمار ، وقد أسلفنا في ذلك ما فيه كفاية
وأما المرأة غير الحائض والكلب الذي ليس بأسود فقد عرفت الكلام فيهما انتهى .
وفي بعض طرق البخاري على حمار أتان ، قوله : ( ناهزت الاحتلام ) أي قاربته من قولهم نهز نهزا : أي نهض ، يقال : ناهز الصبي البلوغ : أي داناه . وقد أخرج البزار بإسناد صحيح أن هذه القصة كانت في حجة الوداع كما تقدم ، وفيه دليل على أن ابن عباس كان في حجة الوداع دون البلوغ ، قال العراقي : وقد اختلف في سنه حين توفي النبي صلى الله عليه وسلم فقيل : ثلاث عشرة ، ويدل له قولهم : إنه ولد في الشعب قبل الهجرة بثلاث سنين .
وقيل : كان عمره عشر سنين وهو ضعيف . وقيل : خمس عشرة ، قال أحمد : إنه الصواب انتهى .
وفي البخاري عن سعيد بن جبير قال : سئل ابن عباس : مثل من أنت حين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : أنا يومئذ مختون وكانوا لا يختنون الرجل حتى يدرك ، قوله : ( بين يدي بعض الصف ) زاد البخاري في الحج حتى سرت بين يدي بعض الصف
قوله : ( فلم ينكر ذلك علي أحد ) قال ابن دقيق العيد : استدل ابن عباس بترك الإنكار على الجواز ولم يستدل بترك إعادتهم الصلاة ; لأن ترك الإنكار أكثر فائدة . قال الحافظ : وتوجيهه أن ترك الإعادة يدل على صحتها فقط لا على جواز المرور ، وترك الإنكار يدل على جواز المرور وصحة [ ص: 20 ] الصلاة معا
والحديث استدل به على أن مرور الحمار لا يقطع الصلاة وأنه ناسخ لحديث أبي ذر المتقدم ونحوه لكون هذه القصة في حجة الوداع . وقد تعقب بما قدمناه في شرح أحاديث أول الباب .
وحكى الحافظ عن ابن عبد البر أنه قال : حديث ابن عباس هذا يخص حديث أبي سعيد { إذا كان أحدكم يصلي فلا يدع أحدا يمر بين يديه } فإن ذلك مخصوص بالإمام والمنفرد فأما المأموم فلا يضره من مر بين يديه لحديث ابن عباس هذا ، قال : وهذا كله لا خلاف فيه بين العلماء ، وكذا نقل القاضي عياض الاتفاق على أن المأمومين يصلون إلى سترة ، لكن اختلفوا هل سترتهم سترة الإمام أو سترتهم الإمام بنفسه انتهى
إذا تقرر الإجماع على أن الإمام أو سترته سترة للمؤتمين وتقرر بالأحاديث المتقدمة أن الحمار ونحوه إنما يقطع مع عدم اتخاذ السترة تبين بذلك عدم صلاحية حديث ابن عباس للاحتجاج به على أن الحمار لا يقطع الصلاة لعدم تناوله لمحل النزاع وهو القطع مع عدم السترة ولو سلم تناوله لكان المتعين الجمع بما تقدم .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ