أنا تماضر بنت عمرو بن الحرث بن الشريد السلمية، ولدت سنة 575 للميلاد ، لقبت بالخنساء لقصر أنفي وارتفاع أرنبتيه. عرفت بحرية الرأي وقوة الشخصية ودليل ذلك من خلال نشأتي في بيت عـز وجاه مع والدي وأخويّ معاوية وصخر، والقصائد التي كنت أتفاخر بها بكرمهما وجودهما، وأيضا أثبت قوة شخصيتي برفضي الزواج من دريد بن الصمة أحد فرسان بني جشم ؛ لأنني آثرت الزواج من أحد بني قومي، فتزوجت من ابن عمي رواحة بن عبد العزيز السلمي، إلا أنني لم أستمر طويلاً معه ؛ لأنه كان يقامر ولا يكترث بماله،لكنني أنجبت منه ولداً ، ثم تزوجت بعدها من ابن عمي مرداس بن أبي عامر السلمي ، وأنجبت منه أربعة أولاد، وهم يزيد ومعاوية وعمرو وعمرة. وأعد من الشعراء المخضرمين ؛ لأنني عشت في عصرين : عصر الجاهلية وعصر الإسلام ، وبعد ظهور الإسلام أسلمت وحسن إسلامي. وقد توفيت سنة 664 ميلادية.
مقتل أخويّ معاوية وصخر واستشهاد أولادي الأربعة :
قتل معاوية على يد هاشم ودريد ابنا حرملة يوم حوزة الأول سنة 612 م ،فحرضت أخي صخر بالأخذ بثأر أخيه ، ثم قام صخر بقتل دريد قاتل أخيه. ولكن صخر أصيب بطعنة دام أثرها حولاً كاملاً، وكان ذلك في يوم كلاب سنة 615 م. فبكيت على أخي صخر قبل الإسلام وبعده حتى عميت . وبعد دخولي الإسلام حرضت أبنائي الأربعة على الجهاد وقد رافقتهم مع الجيش زمن عمر بن الخطاب، وكنت أقول لهم : (( يا بني إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين ، ووالله الذي لا إله إلا هو إنكم بنو امرأة واحدة ما خنت أباكم ، ولا فضحت خالكم ، ولا هجنت حسبكم ولا غيرت نسبكم ، وقد تعلمون ما أعد الله للمسلمين من الثواب الجزيل في حرب الكافرين، واعلموا أن الدار الباقية خير من الدار الفانية، يقول الله عز وجل يا أيها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون). فإذا أصبحتم غداً إن شاء الله سالمين فأعدوا على قتال عدوكم مستبصرين، وبالله على أعدائه مستنصرين، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها، واضطرمت لظى على سياقها، وجللت ناراً على أوراقها، فتيمموا وطيسها، وجالدوا رئيسها عند احتدام حميسها تظفروا بالغنم والكرامة في الخلد والمقامة…)). ، وأصغى أبنائي إلى كلامي، فذهبوا إلى القتال واستشهدوا جميعا، في موقعة القادسية . وعندما بلغني خبر وفاة أبنائي لم أجزع ولم أبكِ ، ولكني صبرت، فقلت قولتي المشهورة: ((الحمد لله الذي شرفني باستشهادهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته)). ولم أحزن عليهم كحزني على أخي صخر ، وهذا من أثر الإسلام في النفوس المؤمنة ، فاستشهاد في الجهاد لا يعني انقطاعه وخسارته بل يعني انتقاله إلى عالم آخر هو خير له من عالم الدنيا ؛ لما فيه من النعيم والتكريم والفرح ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، " ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون ، فرحين بما آتاهم ربهم "
شعري وخصائصه
أنا من الشعراء المخضرمين ، تفجر شعري بعد مقتل أخويّ صخر ومعاوية ، وخصوصاً أخي صخر ، فقد كنت أحبه حباً لا يوصف ، ورثيته رثاءً حزيناً وبالغت فيه حتى اعتبرتُ أعظم شعراء الرثاء. ويغلب على شعري البكاء والتفجع والمدح والتكرار؛ لأنني سرت على وتيرة واحدة ، ألا وهي وتيرة الحزن والأسى وذرف الدموع ، وعاطفتي صادقة نابعة من أحاسيسي الصادقة ونلاحظ ذلك من خلال أشعاري. وهناك بعض الأقوال والآراء التي وردت عن أشعاري ومنها :
- كان بشار بن برد يقول: إنه لم تكن امرأة تقول الشعر إلا يظهر فيه ضعف، فقيل له: وهل الخنساء كذلك، فقال تلك التي غلبت الرجال.
- قال النابغة الذبياني: (( الخنساء أشعر الجن والإنس)). وقد أنشدته في سوق عكاظ قصيدتي التي مطلعها
قذى بعينيك أم بالعين عوارُ= ذرفت إذ خلت من أهلها الدارُ
فرد علي قائلا : لولا أن الأعشى(أبا البصير) أنشدني قبلك لقلت أنك أشعر من بالسوق .
- سئل جرير عن أشعر الناس فـأجابهم: أنا، لولا الخنساء ، قيل فيم فضل شعرها عنك، قال: بقولها:
إن الزمان ومـا يفنى له عجـبُ= أبقى لنا ذنَباً واستؤصل الــراس
إن الجديدين في طول اختلافهما= لا يفسدان ولكن يفســد النــاسُ
وفيما يلي عينة من أبيات قلتها حزناً على أخي صخر :
ألا يا عين فانهمري بغدرِ= وفيضـي فيضـة مـن غـير نــــزر
فيا لهفي عليه، ولهف نفسي =أيصبح في الضريح وفيه يمسي ؟
وقلت أيضاً :
أسدان محمرا المخالب نجدة= بحران في الزمن الغضوب الأنمر
قمران في النادي رفيعا محتد =في المجد فرعا سؤدد ومخير
وعندما كانت وقعة بدر قتل عتبة وشيبة ابنا ربيعة والوليد بن عتبة، فكانت هند بنت عتبة ترثيهم، وتقول بأنها أعظم العرب مصيبة. وأمرت بأن تقارن مصيبتها بمصيبتي في سوق عكاظ ، وعندما أتى ذلك اليوم، سألتها : من أنت يا أختاه؟ فأجابتها : أنا هند بنت عتبة أعظم العرب مصيبة، وقد بلغني أنك تعاظمين العرب بمصيبتك فبم تعاظمينهم أنت؟ فقلت: بأبي عمرو الشريد ، وأخي صخر ومعاوية . فبم أنت تعاظمينهم؟ أوهم سواء عندك؟ . ثم أنشدت هند بنت عتبة تقول:
أبكي عميد الأبطحين كليهما =ومانعها من كل باغ يريدها
أبي عتبة الخيرات ويحك فاعلمي= وشيبة والحامي الذمار وليدها
أولئك آل المجد من آل غالب= وفي العز منها حين ينمي عديدها
فقلت:
أبكي أبي عمراً بعين غزيـرةٍ= قليل إذا نام الخلـي هجودها
وصنوي لا أنسى معاوية الذي =له من سراة الحرتيـن وفودها
و صخراً ومن ذا مثل صخر إذا =غدا بساحته الأبطال قــزم يقودها
فذلك يا هند الرزية فاعلمي =ونيران حرب حين شب وقودها