"رضعة كورونا"
تماماً كما في الأساطير القديمة يحدث أن تتشابك الأحداث، وتتعقد الأمور، وتبدأ سندريلا الحكايات بالبكاء، ويكفكف دمعها يد الفارس المغوار لتبدأ بسرد مأساتها شهقة شهقة، وتختلج في النفس مشاعر الرثاء، فتمتلئ الذاكرة حكمة وعظة، وتعلق بين مفاصل الأمس تفاصيل محنٍ كانت عصيبة، ينفصل الزمان عن المكان لتتشكل هوة واسعة، يلفها ضباب وبضعة جماجم صخرية، كانوا هنا ثم رحلوا، ويختبئ القمر خجولاً، ضياؤه لم يكن كافياً ليشغل عيون الحراس عن أطيافهم، ويحدث أن يختفوا، وتنزوي السندريلا بملابس الحداد، أربعون حكاية، وتعصف في الأذهان قصص الطفولة لترويها الشفاه جيلاً بعد جيل بتواتر وحرفية.
"هذا هو قدرك" وينتهي الأمر بزيارة ملك الموت لسرير رضيع، انشغلت أمه عنه لترتيب ثيابه والتحضير لطقوس استحمامه بماء الورد والصندل، وزهر البابونج المعطر بروائح أرض طيبةٍ! تأكدت من جاهزية حوض الاستحمام، ودفء المياه في كانون، وما إن همت بحمل صغيرها شهقت هلعة، كان الموت أسرع في انتزاعه من بين ضلوعها، لم تكن المساحة كافية لاستيعاب الأمر لتبدأ مراسم الوداع والتشييع، وتبدأ عواصف البكاء والحسرات والعويل والنحيب!
تفتح باب الكلمات، لحكايات طويلة لاتنتهي، ربما لو قُدر لطفلها الحياة لما جادت بهذه القصص عن حضوره، وبكائه، وطعامه، ونظراته، عن همساته، وعن لحظات ضجره، عن شعورها وهو يعانقها، وعن جنونها وهو يهمس ماما..تقودها ثورة البكاء لمرارة كبيرة، تنظر حول الوجوه البائسة، تسافر في المدى تجده مغتاظاً موعد الرضعةن وموعد تبديل ملابسه.
ويبتعد المعزون عن الصالة، يقترب الفجر من الانبلاج، تكاد تقتلع بأظافرها عقارب الوقت، تستقبل أباه العائد من عمله كم كان يشعر بالسعادة وهو يحتضن ابتسامته الندية، ينزع يده عن لحيته باسماً، راضياً بصخب طفله رغم تعبه وضجره.يقترب من سريره متأملاً ألعابه لقد صار نزيل السماء.
يُشارك الملائكة الصغار أغانيها
وتشاركه أمه حسراتها
وتصغر الدنيا كثيراً كثيراً
بين أحضانهما.
يُشاركها حلمها، وتُشاركه حزنه
ويراودهما حلم طفولة جديدة
غير أن اليأس حطم مختلف مشاعر الأمل، والتفاؤل، وتتضاءل مساحات الغرفة، التي ينبعث من أركانها صدى صوته بانتظار رضعة المساء.
ويجلس الوالدان بانتظار أحدا لن يأتي، وتشتعل في الصدرين آهات ومشاعر حنين، كلاهما يحتاجان عمراً إضافياً لتقبل تداعيات الفجيعة، وكلاهما يرغبان بالسفر إلى حيث السماء، ومشاركة الملائكة غناء الصباح مع موعد رضعته.
تتجمد المشاعر، والعواطف، وتثقل الهواجس كلا الرأسين، أين هو الآن؟ هل من احد ليجيب؟
ـ الموتى رقدوا، ولم يعد أحداً بانتظار الصباح.
والمشاعر الإنسانية تبدلت، إثر انتشا رفيروس كورونا في الأجواء.
الأمر الذي بدد مشاعر الأمان، لم تعد تجد مشاعر المقاومة، خمدت أنشطة الخلايا، وغابت الابتسامة البريئة، ولن تصحو الام ثانية على صوت طفلها منبها إياها على موعد رضعته، تمدد في اللحد، وغاب تحت ركام التراب، تاركاً لذويه صوراً وبضعة ومضات دافئة جداً، تدغدغ الذاكرة من حين لآخر.