" كنا هناك "
كنا هناك " إيحاء " مفتوح الأبعاد في المدى المطلق ، يحمل أكثر من مسمى أو عنوان المشترك فيها هو التصوير السايكولوجي والانفعالي والإيحائي والرؤى الفلسفية ، اتسع خيال الكاتب عبد الكريم لطيف فيها الى ابعد من حدث او تصور ليهتم بالأبعاد " العلو والهبوط "وما يصحب ذلك من مفاهيم الإرادة والشروع والتوكل وما يقابلها من احباطات وانكسارات نفسية وانكفاء ونكوص، الأمر الذي اوجب حالة التمرد التي تدعو الى التغيير والبحث عن الحقيقة طبق فهمها المرحلي على انها الحقيقة بعيدا عن الإطلاق ويبقى الهدف هو الامر الذي لا نحسن الوصول وان وصلنا لا نحسن الحفاظ عليه بوعي وارداه أو إهمال أو عدم معرفة قيمته .
هذه مقدمة مختصرة جدا لا بد منها حتى يتيسر لنا الولوج في عمق الفكرة لقراءة النص بشكل متوازن وتقني ولنبدأ بالـ " العنوان " باعتبارة مرآة النص ، يمكن ان يعكس صورة تبعد او تجذب المتلقي عنها أو اليها ،
اعتنى الكاتب هنا بالعنوان عناية فائقة وكان موفقا في اختياره وقد استوفى الشروط المطلوبة في إثارته للانتباه وشد المتلقي الى المتابعة
" كنا " : انا وهو رفيق المحنة والمعاناة والتأزم والفهم الفلسفي والتغييري وثالثنا دورة الأمل والإحباط
" هناك " ظرف حر مفتوح ، يجمع الزمان والمكان ، يمتد الى مواطن اللاوعي والوجدان والشعور والسلوك ، يشي بالمعلوم والمبهم والحديث عنه يطول .
تحليل النص هنا يأخذ أكثر من بعد يبدأ بالنظرة التقليدية الكلاسيكية لمفهوم وأركان القصة القصيرة الذي يضع النص والكاتب معا في قالب أو إطار حديدي لا يقبل التمدد ويرفض الزيادة او النقصان يقابله البعد الأكثر حداثة إن صح التعبير احتل مكانه ومكانته كظاهرة أدبية تبحث عن مريديها وفهمها وتقييمها يخرج الكاتب فيها عن المألوف في فن القصة القصيرة ضمن ضوابط معلومة ويجمع فيها أكثر من جنس أدبي بعملية تلاقح أجناس محسوبة ينتقل الأديب من جنس أدبي أو وجود إلى جنس ووجود آخر في نص واحد أو مقطع واحد شرط العناية والفنية وفي ذلك تفصيل سيأتي في دراسة منفصلة إن شاء الله
" كنا هناك " نص من النوع المتحرر الذي لا يلتفت إلى الوراء ولا يلتفت إلى النوع لأنه جمع بين فن المقالة والخطابة والقصة والمسرح الجاد لكن هذا التحرك في هذه الفضاءات لا يعفيه من التقييم الفني وإيضاح اشكالياته ومواطن القوة والضعف فيه أرجو ان يتسع صدركم لذلك
· يبدأ النص بـ " الضحى" الذي يتبعه ظلام الذي يشي بإشكالية على ظاهر القول باعتبار الضحى أول النهار ويفصله عن الظلام فاصل من الزمن ، لكن الضحى يمكن ان يكون أيضا كامل النهار إذا قسم اليوم بين الليل والنهار بدليل الآية الكريمة
" والضحى والليل إذا سجا "
الضحى هنا كامل النهار او كامل الضياء يقابله الليل والظلام
· ـ عندما انحنى نور الضحى , وتزاحمت ... ـ
واو العطف بعد الفاصلة زائدة ، أما أن تحذف الفاصلة وتعطف الجملة بواو العطف ا و أن تحذف الواو ويعطف ما بعد الفاصلة على ما قبلها بسياق المعنى وتوالي الحدث
· كثرة استخدام الواو والفاء في مقدمة النص أفسد انسيابية النص وأضعف المضمون بالتكرار، يستحسن ان تستخدم في محلها الصحيح للفائدة
· ـ ـ وعلى الفور هاتفت خليلا مهذباً ونافعاً , إستأمنته فأخلص لي ...فلبى دعوتي , وكان نديما ـ ـ
ترابط عسير هنا بين الجمل ! سببه ـ إستأمنته فأخلص لي ـ التي حشرت في غير محلها وان مهذبا ونافعا هي صفات لذلك الصديق فيمكن ان تضاف صفة الأمانة إليها ويرفع هذا العسر وتنساب الجمل بشكل أيسر معنى وتركيبا
· ـ وعلى الفور هاتفت خليلا مهذباً ونافعاً ,...لبى دعوتي وكان نديما ـ
النقاط الثلاث الشارحة ... هي لشرح مضمون ما سبقها ولم تأت هنا في محلها لان فلبى دعوتي هي معطوفة على اخلص لي وتلبية الدعوة لا يمكن ان تشرح وتوضح حالة الإخلاص ( اخلص ، لبى : فعلان منفصلان في الحدث والمعنى )
لنقف قليلا عند هذه الصورة القصية الرائعة في هذا المقطع :
ـ ـ وسرعان ما اتحدت روحينا ..! فتنائينا في البعد حتى هبطنا فوق السحاب المتجمع حيث المطر؟!! ــ ـ
هذه الصورة تقديم رائع لما سيأتي وسر جمالها وقوتها تكمن في " سعة الخيال "و ربط السحاب بـ " حيث المطر " فالسحاب الممطر مثل شجرة مثمرة والسحاب الجاف الغير ممطر " ويسمى " الجهام "مثله مثل لحاء جاف وهو الخواء ولو كان لأفسد قدسية ذلك الاتحاد الروحي الذي يمثل حركة ضمنية والحركة حياة والمطر حياة.
التوحد
في هذا النص طرق الكاتب عبد الكريم لطيف "التوحد " مرتين في موضعين مختلفين الأول توحد الصديقين والثاني توحد الصوتين ، صوت البرق مع صوت الآية الكريمة التي جاءت في النص ،
ويعتبر التوحد في أصله الفلسفي والوجداني من المعاني السامية التي يلتزمها الزاهد الصوفي للوصول الى مبتغاه كدليل على لحظة الالتحام والتوحد وفيض العشق الإلهي
وهناك توحد آخر مع الطبيعة
وهو توحد ذو طابع صوفي اقرب إلى الإحساس بالوحدة والغربة عن العالم الذي يحيطه فيحقق بهذا التوحد مع البعيد السامي كطموح لا يطال
وتوحد آخر هو توحد الأرواح كما هو حاصل في هذا النص الراقي لكنه وللأسف افتقر إلى مقدمة روحية ينتشر فيها الإحساس ويملأ فضاءاتها فيض الوجدان لتلتحم الأرواح ، ويحتاج النص أيضا إلى مقدمة عرفانية عريضة لتحقق أو تصل إلى محراب اللاهوت الذي كشف الكاتب عنه مع بساطه اللاهوتي الذي مال بهم إلى الأسفل كبداية للسقوط ،
ـ ــ وعلى أثرها ماج بساطنا اللاهوتي تحت عري أقدامنا وسقطنا بفعل القذف من علو كقطرات المطر النازلة ـ ـ
جاء هذا التوحد مفاجئا في بداية النص مع مقدمة متواضعة عن الصديق ووصفه بالمخلص والأمين ومن صنعة المعروف لكن هذه الصفات وحدها لا تكفي لصياغة التوحد لما لها من خصوصيات سامية في عوالم العرفان والشعور والوجدان و كان من الممكن للكاتب أن يمنح دورا " للراوية " ويتبادل معه الأدوار ليخبر هو عنهما معا ويخلق لهما تلك الأجواء التي تسبق حالة التوحد وتنسجم معها
أما حالة التوحد الثانية في النص فهي إشكالية لأنه توحد غامض غير متكامل الصورة والمعالم وغير متكافئ ، لمَ يتحد ذلك الصوت الرخيم الذي شق عنان الأفق البعيد والذي يعلن عن آية قرآنية شريفة مع صوت الصواعق ورعدها المرعب ؟ هل في الأمر في هذا النص ما يستوجب هذا الإعجاز بان تطلق السماء ذلك الصوت الرخيم وتلك الآية الشريفة وتتحد مع الرعد المخيف ؟ هذا حدث كبير يحتاج الى سبب كبير يوازيه ! أما حالة السقوط وميلان البساط اللاهوتي الذي ظهر فجأة دون مقدمات فيمكن أن تحدث بلا معجزة كهذه لان الأمر مبني على الشعور والإحساس وحالة الاتحاد التي تحدث في الوجدان وينقلها الخيال إلى البعيد " العلو " لسموها ويمكن للكاتب أن يجد طريقة غير الإعجاز للسقوط لأن الإقناع يعد من العناصر الأساسية في أي عمل فني.وحتى ذكر الآيات الشريفة كما هي كاملة مع التصديق في النصوص الأدبية غير محبذ ويمكن كتابة ما تعنيه الآية الشريفة في النص وذكر الآية كاملة في الهوامش بعد نهاية العمل
ـ ـ ران الصمت حديثنا بعد ان اخترقت زمجرت السحبمجلسنا النائي وتلاطمت بأ تحاد السالبين مخلفةصواعقها باكورة من حمم بسعير الجحيم , وسرعان ما تحدتمع صوت رخيم شق عنان الافق البعيد
(إذا السماء انشقت , وأذنت لربها وحقت , وإذا الأ رض مدت ,والقتمافيها وتخلت)(صدق الله ا لعظيم) ـ ـ
لكن الأمر قد يأخذ بعدا آخر غير البعد الظاهر في هذا الاتحاد اعجز انأ من الوصول إليه فلا بد للكاتب من رؤية تختلف تماما وتعلل وتشرح ماهية وعلة هذا الاتحاد والاعجاز، قد يكون سبب إخفاقي في عدم فهمه بشكله الصحيح هو قصور ذهني وقابليتي المحدودة وقد يكون قصورا في اللغة التعبيرية في هذه النقطة من النص لتوصيل المعنى بشكل أدق ساعد على ذلك اختفاء الوصف والحدث فلا نجد لغة وصفية في هذا النص إلا ما ندر بسبب حالة التكثيف التي عمد إليها الكاتب والتي أبعدت الحدث وألغت اللغة الوصفية التي كان يجب أن تكون بمثابة العامل المشوق
الحوار في الجزء الأول من النص توقفت الأحداث عند نقطة الحوار المسترسل بل تجاوز ضوابط حوار القصة والمسرح وبدا للعيان اقرب إلى مقابلة صحفية أو لقاء فكري يسال فيها المفكر عن أفكاره ويجيب عنها ، من المعلوم أن التعبير عن الأفكار عبر قناة الحوار منفردة يكفي لعبور ذلك الحيز من الأفكار وفهم غاياتها وعللها لكنه لا يكفي لبناء قصصي متكامل ، ومن الناحية الفنية البنائية فان الإسهاب والاسترسال وعدم المرونة يعيب الحوار الذي هو في حاجة الى بناء وسمات فنية خاصة والأصل هو في عدم الاسترسال في الحوار حتى يخرج من حالة الملل والرتابة فيقف الكاتب مثلا عند نقطة ما ويتجاوزها إلى حدث آخر فيصنع بذلك ارتفاعا في مسار الحبكة و في احداثها ويكسر بذلك رتابة المسار المستقيم فيها ليعود الى النقطة التي تركها ويحفر فيها بعمق ويتركها لحدث آخر ويعود اليها مرة اخرى وهكذا لتنساب مثل تناغم موسيقي في علوه وانخفاضه وهناك في النص الكثير من تلك المخارج يمكن الاستفادة منها لصنع حدث يبعث روح التشويق في النص ومن هذه المخارج التي يمكن الاستفادة منها مثل : ـ ـ أنها قانون القذف والالتقاط ـ ـ ـ ـ هي صورة الشيطان ـ ـ ـ ـ ولأننا لا نريد أن نموت مثل شجرة لا تستطيع أن تقدم ثمرة واحدة غير ما أبدعها الخالق العظيم ... ! ؟ ـ ـ ـ ـ فساد الهدوء نفسينا بعد أن مسحنا خوفنا كما يمسح المطر دموع المساكين لنعودونغرس بأسناننا وجعنا !!. ـ ـ ، نعم يعاب على النص إذا سارت أحداثه بخط مستقيم دون صعود وتوتر وتأزم ثم هبوط وانفراج وهذا التطور فيالحدث يبنى على عاتقة التخفيف من رتابة السرد الطويل ويبعث تلك الروح التي تتصف بالحيوية والتشويق لتكامل العمل،
الفكر في هذا النص :
العتبة التي يستند عليها النص هي " الفكر ، ومنه تتشعب الدروب
فنجد الجادة الإيمانية والميل إليها كجزء من الحل للخلاص
ـ ـ والإمساك بعباءة الصالح بما فيه من صلاح وتقوى ,لنعيد ماتصدع
في تكاملنا الطبيعي؟؟! ـ ـ
ونجد جادة التمرد والتغيير والعبث كمفهوم فلسفي مطروق في النص يدعو إلى النكوص والتقهقر وعدم جدوى الحياة
ــ ــ لا, بل التغيير في خصائصنا والتجريد إن جاز التعبير , وكم من مرة اختلفت مع نفسي جزئيا ,أو حتى كليا , فأصبح كل شيء حولي بلا أبعاد , ولا ألوان , وبغير معنى حتى في حركة الحياة ؟!!! ــ ــ
وجادة أخرى تتمثل بالتجديد والإبداع والرمزية والإيحاء والبحث عن النظرية مقابل الأمل والاجتهاد ومفهوم الموت والحياة وتلازمهما
وتأتي الخاتمة بروعتها " البحث عن طريق النجاة والخلاص " بما تعني سفن النجاة بطابعها الإيماني الفلسفي وطرق الخلاص التي ستجرنا إلى نظرية المخلص والتصاقها بجميع الأديان وفكر التمرد والثورات ، إذن اختار الكاتب هذه النهاية بدقة وعناية أولا لأنها مفتوحة تفتح أبواب النقاش على مصراعيها لقيمتها العالية وثانيا حين قصدها الكاتب كتقديم لمشروع كتابة بنفس النفس السايكولوجي والفلسفي كجزء آخر يتبع هذا الجزء ويكون ( الجزء الثاني) وأقول الجزء الثاني لان الجزء الثاني الموجود حاليا هو تكملة طبيعية للجزء الأول ولا يمكن فصلة كجزء مستقل
خاتمة
النصوص المتميزة مثل " كنا هناك " تشفع ( الفكرة ) بعمقها الفلسفي والديني والاجتماعي والأخلاقي والتربوي والإنساني والبحثي تلك السلبيات التي لازمت النص وان كثرت لأنه نص خاطب الإبداع برفضه السطحية وخاض المسيرة في العمق والوجدان والحس والوعي وما فوق الوعي ولأنه اعتمد التجديد في الأسلوب القصي مبتعدا عن المألوف وحسم خصوصية لصالحه وابتعد كاتبنا بوعي وحرفية عن المنسوخ والمنقول واجترار الأحداث والتكرار المألوف في المسلسلات والأفلام وقصص المنتديات المنسوخة ، كما اتسم هذا العمل بالجدية والسعي إلى التنظير وهذا أمر ليس بالهين ولا يمكن المرور عليه مرور الكرام دون تقييمه بالشكل الذي يستحق ودراسته وتوثيقه وأتمنى تثبيته علّ بعض النقاد يقرءونه من زوايا مختلفة أخرى ويضفون عليه نورا فوق نوره كما فعل الكثير هنا من أدباء النبع الكرام ومن خلال الردود الواعية التي تعاملت مع الحدث والنص بوعي ودراية تدلل على خلفية ثقافية عالية ووعي أدبي نقدي متقدم
شكرا لك أخي الفاضل الأديب عبد الكريم لطيف على هذا النص الذي أمتعني وأتشرف بك أخا وصديقا
التوقيع
الدكتور نجم السراجي
مدير ومؤسس مجلة ضفاف الدجلتين ( 2008 )