التقيت به في جوانب الحديقة وسألته:
_ ماذا تفعل هنا في هذا الجو البارد؟ .
أجابني: بعد نجاحي في شهادة الباكلوريا، كتبت عشرات الطلبات أطلب فيها عملا محترما يقدر ميزة الشهادة الجيدة، وطرقت أكثر من باب شركة ومكتب بنفسي كي أحصل على وظيفة إنسانية أستطيع بها أن أحيا حياة محترمة وسعيدة، لكن دون جدوى.... والآن ... أصبحت المقهى والحديقة ملاذي المفضل، ولا أستطيع أن أوفر لنفسي نفقتي الشخصية وأنا في هذه السن .
حاول أن يضع حدا للأفكار الصعبة التي كانت تداهمه، وانتصر على صعوبة خروج الكلمات من حنجرته، وتابع حديثه:
_ من يفهمك يا صديقي في هذه الدنيا؟ حتى الآباء يصبحون وحوشا لا ترحم، يا لصعوبة الحياة !!
وضعت يدي على كتفه وربت عليها وأنا متشبع بحزن عميق كاد يخنقني، وقلت له:
_ أنا اخترت التعليم، لكن لا يغرنك مظهري، فأنا في عملي هذا لا أشعر بالراحة، أو كما يقولون المعلم قنطرة الدولة وحمار الشعب. والآن صارت أحوالي فوق الهواء بلا جاذبية، صرت كالفنان في صحراء بلا جمهور وبلا ألوان ...
وصمت برهة غير يسيرة... تمكنت فيها من إعادة تنظيم أفكاري المبعثرة. تحسست جبهتي وعيناي وأنفي كـأني أريد التأكد من بقائها في مكانها. ثم سألته: وما الذي تفعله الآن؟ .
أجاب: نصب واحتيال وسرقة... كل ما يخطرك به خاطرك من الأعمال الحرة..
ولأنني كنت أشفق عليه، لم أستطع أن أحتقره أو أنبذه، هذا التلميذ النجيب الجاد في الدراسة، يصبح هكذا، وتموت طمواحاته وأحلامه في غياهب الجريمة .
كنت على عجلة من أمري لذلك أردت أن أتركه، حين أعدت النظر إليه بدت سمات الحقارة والجريمة عليه... ثم ودعته دون أن أ، أعيد النظر إليه مرة ثانية .
لما وصلت إلى البيت، توجهت إلى المكتب، فتحت الدرج وأخرجت منه صورا التقطناها معا عندما كنا ندرس في ثانوية بالمدينة، بدأت بتقليبها والحزن يملأ قلبي دون أن أعرف كيف أوقفها.ثم بدأت التمعن في التعليقات المكتوبة على ظهر كل صورة:
_ لنحافظ على الحياة كما يحافظ الحبيب على حبيبته .
_ لننبذ الموت كما ينبذه السلطان المحب للحياة والسلطة .
_ على الأصدقاء الالتزام بالقانون الداخلي للصداقة ....