في وقتٍ متأخّرٍ منْ آخرِ ليلة ================= عادتْ إليه اليقظةُ فجأةً ؛كرعشةٍ من هبوبِ ريحٍ تلاقحتْ بين البردِ القارصِ ،ونارٍ لا تزالُ تحرقُ الجسد. حاولَ النهوضَ ؛لايستطيعُ معَ هذا الركامِ دفعاً من كاهل ٍ منهك! شدَّ أعضاءَ جسدهِ المتخدِّرِ يقاومُ الرغبةَ الملحَّةَ للإستسلامِ .عاينَ الموقفَ: لو بقيتُ على الحالة الأولى سأدفنُ هنا دون شكٍّ ؛الهواءُ يتناقصُ ،والاختناقُ باتَ وشيكاً ،وهذا الألمُ يعضّ كلَّ الحواسِ ،لا يدري مَنْ تعاني أكثرَ ليسعفَ تركيزها. جمعَ جسدَهُ كتلةً واحدةً ،واستعانَ بأضعفِ العزمِ قبلَ أقواهُ ،ونهض دفعةً واحدةً !لا مجالَ لحصدِ النتائجِ جرَّاءَ ذلك ،ولم يأبهْ إلّا للوصولِ لوضعٍ وحيدٍ ؛الخروجُ منَ الموتِ المحتّم.كردَّةِ فعلٍ طبيعيةٍ وبسيطةٍ للغايةِ ،من أيَّ كائنٍ يتعلَّقُ بالحياة. وقفَ أخيراً ؛على قدمين ترتجفان ،صمدَ للحظاتٍ من سقوطٍ يعرفُ أنَّهُ الأخير.استنجدَ بحواسِهِ ليتفاعلَ معَ المحيطِ ،وساورتْهُ الشكوكُ علناً أنَّهُ عديمُ الإحساسِ بما يَجري ؛ وأصابَهُ خوفُ الخطوةِ الأولى من عدمِ معرفةِ أينَ تَمَّ رميَهُ آخِرَ مرّة؟ استفاقَ من دهشةِ الخللِ الحاصلِ في الحواس .عندما أنصتَ لما يدورُ حولَهُ :صوتٌ بعيدٌ يشوبُهُ الصدى كمن يسمعُ نداءً من بئرٍ عميق. اِشتمَّ رائحةَ الدخانِ في كلِّ اتجاهٍ ،وهو يدورُ الهوينى بجذعِهِ يميناً ويساراً. ويسمعُ تأجّجَ الحرائقِ وانفجاراتٍ متلاحقةٍ ،وتشقّقَ الصخرِ والحديد. لم يميّزْ غير نسمةٍ بَحْريةٍ لا تُنسى ،من جهةٍ فثبتَ عندها ،وتلاطمُ الموجِ يتماشى ويتناغمُ معَ الأصواتِ الأخرى. تقدَّم نحو الجهةِ المختارةِ ؛يجرُّ القدمَ إثرَ القدمِ ،حتى وصلَ باليُمنى إلى هوةٍ ؛تراجعَ عندها ،ووقفَ ليعلمَ أنَّهُ لا مجالَ لخطوةٍ أخرى ،حتى يتأكَّد من موقع وجوده. ما استنتجَهُ ؛أنَّهُ على حافةِ نتوءٍ صخريٍّ يتَّصلُ بشاطيءِ البحرِ ،يعرفُ منه الاسمَ القديمَ .ورائحتُهُ المحببةُ يخالطُها رائحةُ النارِ ،والصديدِ والغبارِ،وغليانُ الدمِ وتخثرِه. طُبعَ في ذاكرتهِ مشهدٌ من بحرٍ تغيَّرتْ صفاتهُ فجأةً ؛ولونُ مياههِ الحمراء لا تعبّرُ عن صِلتِهِ ببياض سريرته. هذا في الذاكرةِ القديمةِ! إنْ كانَ استشعرَ وجودَه من خلالِ ما وصل إليه ،فهو يملكُ فقط السمعَ والشمَّ ،ويحسُّ أنَّ كلَّ خليةٍ منه تنزف . أرادَ أنْ يتلمّسَ الألمَ وخلاصةَ الجسدِ ،فقد تأكّدَ من أنَّ بصرَه لا يعملُ ؛فلا يرى غير الظلام ،وهو يأمُلُ أنَّها حالةٌ عرضيةٌ ،أو ربّما تَشَوّهَ الوجهُ كلياً ! وأهمُّ ما فيهِ العينينِ والجبهةِ ؛حاولَ جاهداً الوصولَ إلى أيّةِ منطقةٍ من جسدهِ ؛لم يستطعْ! أهوَ شللٌ أم بُتِرَتْ اليدان ؟! تمايلَ يميناً وشمالاً ينتظرُ احتكاكَ الساعدين بجذعهِ دونَ جدوى ! لا بدَّ أنّهما مبتوران حتى الإبط. يشعرُ بالألمِ الحادِّ ،وفقدَ معهُ قدرةَ لمسِ المكانِ ؛حتى يعاينَ جزئياً الضررَ الحاصل. تذكَّر أنّ في جعبتهِ حقيبة إسعافٍ أوَّلي ،ومع ذلك لا يستطيع ؛شعرَ بحرقةٍ في منطقةِ العينين. أرادَ بشدّةٍ أن يبكي دون جدوى !حتى هذا السبيل للراحة فقدَه ،واستحالَ من الداخلِ غضباً وحقداً وعفونة. ألمٌ حادٌّ يعلو معهُ صراخُ الأعضاءِ المتضرّرَةِ ؛تخدَّرَ معهَ الحسُّ رويداً ،وأقفلَ العقلُ بوابةَ الإدراكِ إلّا عن طلبِ الراحة . الحياةُ نسّتْ رويداً ،وشارفتْ على الرحيلِ ؛استفاقتْ معها بعضُ الذكرياتِ ،ومشاهدُ تزاحمتْ رغماً عن الضعف ؛انفجارٌ هائلٌ لآخرِ قطعةٍ آهلةٍ بالسّكانِ ،لِآخِرِ مَلاذٍ لِمنْ أرادَ المقاومةَ ولِمنْ أرادوا التخاذل..؛لتصفيةِ عروقِ الأرضِ قبلَ البشر ..؛ لجبالٍ من عمرِ الأرضِ أصبحتْ هشيماً تذروها الرياح. لوطنٍ أصبحَ مسرحَ دمىً تعلّقتْ بحبالِ مشانقها ؛لإبادةِ بشرٍ ،أهونُ من إبادةِ الحشرات ... جمعَ ما تبقّى منه للصراخِ !وعلمَ أنّها النهاية ..لآخرِ عرقٍ ..يستحقُّ الوقوفَ برهةً من الزمن. يودّعُ تاريخَهُ من عمرِ الكونِ ؛لم يقف مستسلماً ! إنّما أعجزهُ ما صارَ عليهِ على حافّةِ هاوية . قاومَ السقوطَ منتحراً ؛كي يبقى أملاً لثباتِ عرقهِ حتى لو كانَ مسخاً لا يعرفُ مدى فظاعةِ صورتِهِ ؛بلا عينين تبصرانِ ما يجري ،ولنْ يتفاعلَ معَ مستجدّاتهِ لأنّهُ بلا يدين ،أو حتى لن يعلمَ كيفَ يتلمّسُ مصدرَ ألمِه. لِعرْقِهِ مستباحٌ لتجاربِ السياسةِ والقتلِ والنهبِ ،ولأحْدَثِ نظرياتِ العصرِ ..كان فأراً صبوراً ! كما تتكَّسرُ الأمواجُ عبرَ الزمنِ على الصخورِ ،ومهما تتكّسرُ الأحلامُ في هوَّة اليأسِ ،ومهما يُصِرُّ الآخرونَ أسنانَهم على العظامِ القديمةِ .. لا بدّ من ليلةٍ أخرى... =================== محمد عبد الحفيظ القصاب 1\8\2006 م