الإيقاع في قصيدة نشيد الدموع للشاعرة الفذّة منية الحسين
الشاعرة منية التي أعرفها منذ عقدٍ ونصف العقد تقريباً، بالزهرة البرية التي توجهت في شعرها الى الآخر ليكون للمتلقي دوراً إيجابياً في تحديد المسار الإيقاعي ويكون هذا الإيقاع ملتصقاً بالمعنى الذي تفرزه الكلمات.. وتشكل عالماً متحركاً في سلسلة الإرتباطات وألبست قصيدتها ثوباً مزركشاً ايقاعياً حين صبغته بإيحاءات نفسية وبعنصرها الموسيقي الذي يتواتر في الأصوات ونبرها.
اقتباس:
ماذا أقولُ : لخافقي
لوْ دقَّ بابي في المساءْ لوْ جاء يسْأل عنْ مَواعيد الغِناءْ ؟ عنْ نوْرس الضّوءِ المُهاجر منْ العُيونْ عنْ مَرْكب الفَرْحِ المُغادر للشّطوطْ ؟ لوْ جاء يبْحث عنْ حديثٍ كان يسْبِق خطْونا ليرنّم الألحانَ في بهْو اللّقاءْ ؟ أأقولُ سافرَ في العبابْ كالبرقِ أوْمضَ لحظةً ثمَّ اختفى مثْل السّرابْ أمْ تاهَ منّي في ازْدحامِ الشّوْق واعْتنقَ الغِيابْ ؟
البناء الداخلي لموسيقى الجمل والأبيات والمتضمن نِبَراً وتنغيماً الى جانب الإيقاع الخارجي ينبيء عن ثورة وجدانية كما في (ماذا أقولُ : لخافقي لوْ دقَّ بابي في المساءْ ) تعبر الشاعرة بعمق صوتي من الإحساس لمواجهة ما يتضمنه الموقف الشعري أو ما ينضوي في معناه.
إن استعمال اللغة وكيفية توظيفها يبرر العلاقة المتبادلة بين نظامها وسياق استعمالها مما يتيح للشاعرة منية استثمار كافة المستويات اللغوية مثل المستوى الفونولوجي بتوظيف التنغيم والنظم التركيبية، لتحقق في هذا انجاز الأفعال اللغوية التي تنبيء عن الأبعاد التداولية للخطاب.
فكان ماكان من التنغيم الذي تجلى فيما تلفظت به (منية) انطلاقاً من المستوى الصوتي الذي يحمل شحنات ( البرق حين أومض لحظة) في قصدها ويحددها في صورة قوية في المستوى الذي يصل الى ذهن المتلقي باختفاء البرق مثل السراب، وتضع له احتمال التيه في ازدحام الشوق، وتعطيه قوةً مجازية وإنجازية في احتمال أنه اعتنق الغياب.
ثم إن تكرار كلمة (لو) لثلاث مرات في المقطع أعلاه تعلم قائلته أنه حَرْف شَرْط يُسْتَعْمل في الامتناع أو في غَيْر الإمْكان وتعرف أنها حَرْف مَصْدري بمَنْزلة أَن، إلّا أنّها لا تُنْصب وتأتي غالبًا بعد فعل «ودّ، يَودّ» فإذن هي تجعل المتلقي يتصور بأن الشاعرة تفتديه بأي شيء لو تحقق ما بعد الـ(لو) هذه.
قدْ هامَ ظلّي في دروبِ العاشقين وعاد منْها ظامئاً يسْتمْطِر الغيْم العَقِيمْ
فالنغمة الهادئة هنا في هذا المقطع يبررها الألم والحزن الذي خيّم على جو الشاعرة التي تعيش حدثاً مأساوياً كما وشى عنه ماسبق من الأبيات، وأنها لاتخلو من التشكيلات الصوتية وأشكال الإيقاع البلاغي في جرسه يسهم في إحداث أثراً تداولياً في الخطاب.
فمن الدلالات بان لنا هنا أن العنصر الإيقاعي قد أثرى البنية الإيقاعية والدلالية للقصيدة وأحدث تماسكاً في بنيتها وكسر رتابتها وبذلك كسبت القصيدة درجة موسيقية ملموسة.
فقد خاطبت الشاعرة عاطفة المتلقي واستطاعت أن تثير فيه المشاعر والوجدان بجميل التركيب بكلماتها في تحيز الألفاظ وتلطفت في الآذان حين أسمعتها نغماً موسيقياً منتظماً.
ومشكورةً منية إذ منحتنا أبعاداً متناسبة ومنسجمة مع مشاعر النفس وأحاسيسها وأسهمت في خلق حالة نفسية رسمت فيها صورة شعرية مؤطرة انفعالياً بالحزن ومزججة بذبذبات مشاعرها.. لتمثل الظواهر الإيقاعية فيها ركناً أساسياً هاماً في الخطاب الشعري.
تنوع الوظيفة الإيقاعية جاء بتنوع الظاهرة ، ففي المقطع التالي تعاظمت وطأة الأسلوب الفلسفي في قولها (هَذي الحِكايات الحزينة تقْتفي أثَر النّهارْ، وتنامُ بيني كلَّما فاحَ الغُبارْ، في الضّفَّةِ الأُخْرى أراكْ) ووفق هذا المنظور تصبح مسألة الوزن والقافية مسألة زمانية، ومسألة ترتبط بجانب لا محدود من الإبداع الشعري، كما تمثل (الموتيفة) في موسيقى القصيدة، المفتاح الذي يفتح الفكرة الكامنة في النص ليكون موضوعاً رئيسيياً للعمل الموسيقي أو ما يمكن أن نحدّده بأنه تتابع مميز للأصوات.
للشاعرة إيقاعها الخاص ولها الحرية في ذلك، وهذا ما يميز مفهوم الحديث في هذه القصيدة ويرتبط إيقاعها بالمعنى ارتباطاً حيوياً؛ لأن الكلمات التي يبتدعها المعنى لا تنفصل عن أصولها الصوتية، فكان جرسها صدى للمعنى بامتياز.
وبهذا المعنى أصبح الإيقاع في قصيدة (نشيد الدموع ) ذو خاصية جوهرية مميزة للشعر، وليس خارجاً أو مفروضاً عليه وهذه الخاصية ناتجة في الحقيقة عن طبيعة التجربة الشعرية ذاتها، والتي تبنتها الشاعرة لذلك لابد من توافر وسائل حسية لتجسيدها وتوصيلها، ومن هذه الوسائل الإيقاع.
وبما أن الإيقاع الشعري هو من مكونات النص الدلالية، واتسم بشعر الحداثة، فقد صار إيقاعاً غامضاً لا يتميز بذاته، وإنما يندمج بنائياً في البنية النصية، حاملاً نصيبه من دلالتها.. ومن ثم أصبحت القصيدة قانون نفسها، فخلقت قانونها الموسيقي الخاص والنابع من حركتها الداخلية وضراوتها البنائية كما تنادي من بعيد (عُدْ ياحبيبي كارْتحال الضّوء عنْ جوف الظّلامْ، لتعود أعراسُ الشّموسِ تُساكن الخفقاتِ أعشاشَ النّهارْ، تشْدو جوى الآهاتِ لحْناً للحياةْ) وقد تولد الإيقاع عن أرضية ومناخ جديدين، لم يعد فيهما الوزن وحده محكاً لشعرية القصيدة، بل هناك محك خلّاق ومبدع تمثل بالشاعرة إذ أعطت بريقها للموسيقى وللمعنى.
فجعلت العلاقات فيه عقلية حسية، ولا تكفي الحواس لإدراكها، بل تحتاج كذلك إلى الفكر(منْ يزْرع الأزْهار في مهْدِ الجفونْ ، ويُرتّق الأنفاسَ في صدْرٍ حنونْ ؟ ، منْ يمْلأ الأقْداح قَطْراً منْ فتُونْ ؟)، فالكلمات نفسها مبنية بناءً مزدوجاً، إنها أصوات تعتبر رموزاً للمعاني، وهي أيضاً تعتبر جرساً لتلك الأصوات.
ثم تتغير النغمة في هذا المقطع الى عرضٍ تتراقص الأحلام فيه فوق الكفوف بثوبٍ جديد بإيقاعٍ يفيض ألماً وحسرة على فَقْدِ من كانت تنوح عليه النسائم وبات لسان حال الشعر هذا بلواعجه كأنه عصفورٌ مذبوح يرقص من الألم.. لتصرخ من هناك عساه أن يعود ولو مرة (يازهرَ الخَرِيفْ، ياصَوْتَ عاصفةِ الحَنين، لَملمْ صُراخكَ في دَفاتِرنا الكَليِمة، والسّلِيبة، في مَسامعِ صَمْتِنا) ثم يتجلى الإيقاع النابع من حركة المعاني الكامنة في النفس والمتفاعلة مع النغمة التعبيرية التي يكسبها نموّاً حيا يسري من خلال علاقة اللغة السياقية بالنظام الدلالي للمعنى.
ثم يجيء التصعيد في وتيرة المعاني حد الذروة (وأزمُّ عطْركَ في يدِي وشماً يطوّق معْصمي، ينْثال جمْراً في ثنايا الوجْدِ يُشْعِل مهْجتي، ربّاهُ إنَّ الشَّوق ينْمو في الضّلوعْ، والعمْر يمْضي في خشوعْ، حتّامَ أسْقي غنْوتي سيْلَ الدّمُوعْ !!؟؟) لتتحقق امكانية كبيرة للدهشة الشعرية.
فالإيقاع ليس لباساً يُلصق باللغة دونما ضرورة، بل هو أداة فعالة في الشعر.
أما الوزن في الشعر لا يمس الناحية الشكلية فحسب، ولكنه يمس كذلك جوهره ويرتبط بمضمونه، كما يرتبط بشكله .
لم تخرج الشاعرة عن الأوزان الشعرية لكنها تحررت من نظام البيت الذي كان يحدد عدداً متساوياً من التفاعيل. إذ أن قصيدتها جاءت متفاوتة الطول، الأمر الذي مكّن الشاعرة من التعبير عن خلجات نفسها بحرية فانسابت موسيقاها لمن يمتلك أدنى حس إيقاعي ولعل الشاعرة وجدت في هذه التفعيلة مرونة أكثر على نقل أحاسيسها وتجربتها ومشاعرها الداخلية. حيث وجدت منية فضاءاً إيقاعياً حراً لبيان ما في صدرها من مكنون من حزنٍ وألم.
ومن هذا المنطلق وبالإشارة الى الصور التي أتت عليها التفعيلات تشي بأن القصيدة تحمل تجربة خاصة ومتميزة من حيث الإيقاع والمعنى بنداءها في لحن الحياة: ياأيّها المسكون بي أوَ ترقد الأحلام إلّا في ثنيّات العيونْ
ما بين جفن يصهل الأشواق في ليلِ العناءِ وبين خفقٍ يشتهي دِفق الحنانْ .. عُدْ ياحبيبي مثل عصفورٍ تطوّق برده الأغصان من بعد العراءْ واغْمِسْ نحيبكَ في دمِي كي يصْطَلي نبْضي شذاكْ، أسْراب دفءٍ وانْعِتاقْ.