هديل الدليمي.. في الميزان النقدي
عمر مصلح
شاعرة عراقية تشتغل على النص الشعري العمودي، وقصيدة التفعيلة، لها صورها الخاصة، ونظامها الخاص بتراكيب خاصة أيضاً، وهذا طبعاً لايعني خروجها عن الوزن الخليلي.
أما في قصيدة النثر فلم أعثر لها على نص، ولا أدري موقفها منها. رغم أنها قادرة جداً على كتابتها، كوني متابع حرفها بدقة وبشكل مستمر، وهذا طبعاً ناتج عن إعجاب أولي بالأسلوب، وبدافع فضول النقد..
تمتلك لغة سليمة، وحساً شعرياً خاصاً، ومعنى خاص هنا أي أنها لم تتناول كل الأغراض الشعرية (على حسب علمي) وربما يكون ذلك لعدم اقتراب بعضها من دائرة علاقات عواطفها.
وقبل ولوجنا عوالم شاعرتنا علينا التذكير بمسلّمات كتابة النص الموزون بغية التذكير أولاً، واعتبار هذا مدخلاً لاشتغالاتها انياً. … فالنص كما هو معلوم، يبدا بفكرة ثم استدعاء المفردات، وهنا أقصد مسألتين، ألأولى مفردات النص كمثابات اشتغال، (بنيوياً) حيث تتحدد العلاقة بين الدال والمدلول اي الشكل والمعنى في التحليل البنيوي، بأنها تبدو نسقاً من الأدلة وتظهر كمجموعات مبنية من العناصر، للتأكيد على الوظائف الداخلية للأنساق، ويختلف مفهوم البنية نتيجة الإختلاف في نظام العلاقات ضمن النسق الكلي.
وبعد تنضيد الكلمات التي تنتهي بحرف روي، يتلوها تنظيم لتحقيق صورة، تحتوي على عمق دلالي محايثة مع متغيرات وتحولات تصب في نفس الطبق رغم تعددها، إلا ان زوايا التناول مختلفة من حيث التراكيب وابتكار لغة بديلة عن المألوف، رغم تطابق الكلمات إلا ان استدعاء المدخلات تصاغ بطريقة تُقرأ وتُفسر بسهولة كمخرجات طبيعية، ولكن جوانيات النص تشي بغير ذلك، وهذا بعض ما يميز الشاعر عن الناظم، وهذا هو الفرق بين هديل الدليمي وبين النظّام.
لذا تلجأ الى نظام اشتغال موزع جغرافياً بحرفنة، بعد استدعاء الإثارة والدهشة، من حيث الأفكار والصور المستحدثة وأنساق (ليس النسق النقدي) تعطي نموذجاً للتفكير الأدبي المنظم كأي مجرم محترف، بتأسيس نظام وصفي بعيد عن الغموض بشكله الظاهر، لكنه لا يمنحه الصورة المطلقة، إذ تموه الدقة بالتعبير عن القضايا الذاتية، بقوالب غير متفق عليها، وكل هذا لتبتعد عن الشخصنة، وهذا - حسب اعتقادي - خاضع لقًوانين تحكم الشاعرة، تبعاً لانحدار طبقي او بيئي او تقليد ونواميس.
وهنا اشتغال على منظومة مشاعر مختلطة بين الوعي والبناء النفسي، وعومل مجاورة كالموسيقا وفلسفة الخلاص، من النكوص الى تجارب وخبرات سابقة، أو العكس.
وانتخابها للنص العمودي الخليلي، المحكوم بصدر وعجز وتفعيلات بعملية رياضية صرفة، ولكن بحروف لا ارقام، تكون أزاء معضلة الحفاظ على النسق الجمالي، والنظم الذي لا يطرب المتلقي الفنان.
ووقع الكثير من الشعراء (النظّام) بهذا المطب، فابتعدوا عن الصورة، وفلت الإيقاع الجمالي، رغم محافظتهم على الإيقاع الوزني، فانتجوا مطولات لا تغني عن جوع.
وهذه طريقة سلبية بالأداء الفني الجمالي، ولذلك تأخروا عن ركب الشعراء الصوريين الملتزمين بنفس القًواعد.
وهذا طبعاً ناتج عن مدارك يحكمها الوعي، والمعرفة التجريبية، ومن هنا ينطلق الشاعر المنتج، (نوعاً وليس كماً) إلى سوح رغباته ودوافعه فيحيلها إلى تشكيلات جمالية بلغة درامية، متموسقة. ويطيب لي استعارة بيت لأبي نؤاس يقول فيه :
إسقني خمراً وقل لي هي الخمر… ولازتسقني سراً إن أمكن الجهر
هنا سأتوقف عند وقل لي هي الخمر، فهل أراد النواسي باستخدام هذه الجملة استواء البيت وزنياً، أم ماذا؟. والجواب الذي أعتقده انا شخصياً، أن النواسي غير محتاج للحشو، خصوصاً وهو أول مجدد للشعر العربي في العصر العباسي، وهو الذي حذف الحشو من البيت..
إذاً هناك سبب آخر، وحسب اعتقادي أقول أنه كان شاعر خمري، وبما أن الخمرة ملموسة ومشمومة ومرئية ومذاقة، وغير مسموعة، لذا أراد إشراك كل الحواس بالخمرة.
ربما أكون مخطئاً، ولكني لم أجدد سبباً آخر.
وهديل الدليمي من هذا النوع، (وهنا لا أريد عقد مقارنة) لكنها تحاول الإبتعاد عن هذا، إلا إذا انقطعت بها السبل، وهذا ليس افتراضاً، بل ناتج عن قراءة وتشخيص، ولم أشأ الإستشهاد بأي نص، كي لا أبتعد عن القضية التي نتحدث عنها.
إذ أن الإبداع عملية عقلية ذكية تتصيد مكامن الاثارة والمتعة عنذ الاكثرية، طبعاً بمفاهيم اخلاقية وواقعية الصورة ومخيالبة التعبير.
وانطلاقاً من نظرة الجمال الافلاطونية نقول ان الجمال نوعان، نوع مرتبط بالمثل والحقائق، وهذا نجده في نصوص المديح والرثاء والفخر.
وننوع حسي نابع من الرغبات وكوامن العقل الباطن.
وقد اشتغلت هديل الدليمي على كليهما.
إذ تطلق العنان لمخيالها بإلهام لا أجده إلا شيطاني، كونه لايمت الى عالم الواقع بصلة من حيث التصوير، في الكثير من نصوصها ولا أقول الكل.. متجاوزة العالم الحسي للتوغل في عالم المشاعر العاطفية في النفس.
وتعريف النفس عند ابن سينا يندرج تحت منهج تحليلي للوظائف ثم يصنفها تصنيفا خاصاً به، ومنهج تركيبي فيرسل الوظائف الى الفطرة بترتيب متصاعد لبلوغ الكمال، وشاعرتنا تدرك هذا تماماً، والنصوص التي استعرناها كعينات لهذا المبحث شاهد على مانقول.
فقامت الشاعرة - لا شعوريا وهو الأرجح - بدمج هذين المنهجين لتصوغ جمله بطريقة مختلفة عن الصياغات النثرية أو العلمية أو الدينية. واجد هذا يقترب كثيراً من مذهب جون ديوي - رغم اعتباره الفن خبرة - ولكنه يؤكد على ان المبدع ينتزع صوره من الواقع ويوظفها تجريبياً.
وتحضرني هنا مقولة الشاعر (رامبو) اذ يقول ان الشاعر المهم هو من يوظف مفردة الشارع شعراً، وهذا ما وحدناه في بعض نصوص الشاعرة الدليمي، هذا أولاً، وثانياً من النادر استخدام المفردات المتروكة او التي تحتاج الى شرح قاموسي، وحسب تقديري ان اسوا الشعر هو الذي يلجئك الى البحث في القاموس.
وارى هذه الشارعرة براغماتية شعرياً أحياناً، ان صح التعبير اذ تؤمن بالتحول والتطور وترفض الجمود، ورب سائل يستغرب استخدام هذا المصطلح الفلسفي، لكنه مايلبث ان يتراجع كون البراغماتية تنزع كل نوازع الفانتازيا في تخيلاتها وانفعًالاتها الذاتية.
لذا نجد قصائدها واقعية الشكل مخيالية التعبير، إضافة إلى أنها لاتميل الى السهل الممتنع ولا توغل بالتوعير اللغوي.
إلا ان هذا لا يعني انها تعمل وفق نظام التسطير والقانون الانشائي للجملة، إذ نجدها في نصوص اخرى تدخل مداخل نموذجية باطر حضارية وتاريخية ولكني لم اقرا لها شيئا اسطورياً مثيولوجيا لحد الآن.
واحيانا نحلل بعض ابياتها، فنجدها تقدم الادراك ثم الفهم
وهذا حسب اعتقادي، (كوني لم اقرا تواريخ كتابة النصوص) مرتبط بمراحل مبكرة، قبل انطلاقها من عقال المحدد.
فعملية الكشف التحليلي ببيان الجزء من الكل مرتبطة بالبحر الذي. يحدد جموح الجملة، كما في الطًويل مثلاً.
أما ثريا نصوصها او العتبات، فغريبة بعض الشيء، حتى أخالها ليست من وضع الشاعرة، بتعبير آخر انهار- وفقاً لما قرأناه - لم تولي هذا الجانب اهتماماً كاهتمامها بالنص، وهذا أيضاً خاضع للذائقة، ومرهون بنوع القارئ ومرجعياته ومداخله التفسيرية.. فهناك من النقاد من يعترض او يتقاطع معي تماماً فيما ذهبت إليه بهذا الصدد.
ومسألة عدم الإستشهاد بنصوص، هذه مرتبطة بنوع القراءة ومحدودية التناول من الإطلاق، فإذا تناولت نصاً سأضطر إلى التقوقع والمكوث في حلقة واحدة، وأنا هنا أريد إبداء رأيي بشاعرية وليس بنص، وهنا أقصد الغالب لا الكل، حسب قراءاتي المحدودة.
ويؤيدني بذلك رأي الشاعر العراب فائز الحداد، حيث يقول هناك نص كبير، ولا وجود لشاعر كبير.
قد يعترض أحدهم على جرأة ما أيدناه، وقبل أن يتناولنا برأي قد يكون غير محسوم ثقافياً ولا معرفياً أقول، آن الناقد عبدالقاهر الجرجاني، الناقد العربي الأول في حينه تناول أهم ثلاثة شعراء، وهم المتنبي ومسلم والأعشى، بثلاثة نصوص مشهورة وأطلق عليها الجناس الممجوج، والأبيات هي :
فقلقت بالهم الذي قلقل الحشا … قلاقل عبس كلهن قلاقل
سلت فسلت ثم سل سليلها … واتى سليل سليلها مسلولا
ولقد غدوت الى الحانوت يتبعني … شاو مشل شلول اشول شول
واما في الشعر الحديث فقد اخفق الشاعر عبدالرزاق عبدالواحد (وهذا رأي شخصي) بقصيدته النثرية (لا تطرق الباب) التي أعتبرها أسوأ ماقاله هذا الشاعر الذي نسج أجمل قصائد القرن العشرين.
وسبقه الرصافي، بوصف كرة قدم، والزهاوي بالسفور وغيرهم.
وبالعودة إلى عناوين القصائد استذكرت الآن ما قاله الأستاذ الناقد عباس باني المالكي: (إن الاستناد على عنوان النص كركيزة في بؤرة الرؤيا التي تكون ثيمة النص تجعل الناصّ يتراوح بين الاقتراب من المعنى المقارب للدلالات الموحية للعنوان والابتعاد عنه).
وهذا الرأي يقترب إلى ماطرحناه إلى حدود.
إذ أن ثريا بعض النصوص تنير طرقات الاستكشاف، وعتبتة توجب التوقف عندها، كونها زاخرة بمفاتيح تمنحنا حق الدخول إلى عوالم النص.
ومن منطقة تناول أخرى أقول إن الاخذ بالنظر للاستجابات النفسية والانفعالات الحاصلة على النمط السلوكي هي استجابات نفسية من خلال عملية تثوير قضية ما كما ورد في احد نصوص شاعرتنا عن سيدنا الحسين عليه السلام فتولد النص على ابعاد وجدانية متأثرة بمواقف عظيمة من خلال رثائه باسلوب مختلف تماما عن المرثيات الموروثة المعروفة، وهذا لم يات من فراغ حتماً اذ له اسبابه وغاياته المثلى لرسم القيم الجمالية الثورية، ولكن باسلوب حداثوي، بجعل قضية الحسين ثائراً.. قضية مدونة شعرياً، وهو الأبقى او الاهم من التدوين التاريخي الذي قد يغمط حق سيدنا الثائر، وكل حسب دوافعه، كما فعل المستشرق الفرنسي نيكيتا ايليسف في كتاب "الاسلام في العصر الوسيط" اذ جرد سيدنا الامام علي (ع) وسيد الشهداء من أية قيمة ثورية، بل واتهمهما بعدم الكفاءة، وهذا ليس غريباً عن التشويه الذي نشطت به بعض المؤسسات ذات المصالح البعيدة الغايات، ومنها مؤسسات عربية، لا اريد التوقف عندها كي لا نخرج عن دراستنا هذه.
لكني أشير إلى من يقرأ النقود الإنتباه إلى دور النشر، والبحث عن سياساتها، ونهجها التعبوي، وسنتأكد من حجم التشويه.
عيِّنات بحثي البسيط هذا هي النصوص التالية :
(كن لها، اطلالة من شرفة الوهم، برقية اجلة، ابعد من موت، في رحاب من الخشوع، متسع من الزلفى، رحلة في الايثار، ضمأ).