بين طرفة والمتنبي
طرفة بن العبد الشاعر الجاهلي وصاحب معلقة لخولة أطلال
وأبو الطيب المتنبي الشاعر العباسي الذي ملأ الدنيا وشغل الناس .
كلاهما كان متمرداً فارساً محباً للحرب ، ينطق بالحكمة وكلاهما مات مقتولاً ....
ولكنها كانا مختلفين جداً في هذا الإتفاق .
فالأول كان متمرداً سلبياً هجر عادات قبيلته وتقاليدها وأسرف في اللهو والمجون وشرب الخمر .
ولولا ثلاث هن من عيشة الفتى
وحقك لم أحفل متى قام عودي
فمنهن سبق العاذلات بشرية
كميت متى ما تعل بالماء تزبد
وكري إذا نادى المضاف مجنباً
كسيد الغضا نبهته المتورد
وتقصير يوم الدجن والدجن معجب
ببهكنة تحت الخباء المعمد
وكان إسرافه في اللهو والمجون قد دفع عشيرته إلى التخلي عنه وهجرة :
وما زال تشرابي الخمور ولذتي
وبيعي وإنفاقي طريفي ومتدلي
إلى أن تحامتني العشيرة كلها
وأفردت إفراد البعير المعبد
والثاني كان متمرداً إيجابياً لم يشرب الخمرة عزهاةً لا تطبيه النساء ولا تلهيه الملذات :
وغير فؤادي للغواني رمية ٌ
وغير بناني للزجاج ركاب
وكانت عادات قومه وحالهم لا تعجبه فهو ينعى عليهم تخاذلهم وتسليم مقاليد أمرهم للعجم :
وإنما الناس بالملوك وما
تفلح عرب ملوكها عجم
وكان يدعوهم للدفاع عن شرفهم
لا يسلم الشرف الرفيع من الأذى
حتى يراق على جوانبه الدم
وكان أمةً في شجاعته وخلقه حتى إنه كان يحس أن قومه يشرفون به ويفخرون :
ما بقومي شرفت بل شرفوا بي
وبنفسي فخرت لا بجدودي
والأول كان فارساً محباً للحرب ولكن إذا كانت مصحوبة باللذات :
ألا أيهذا اللائمي أحضر الوغى
وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي
أما الثاني فكان يطلب الحرب ويحث عليها لكي يحقق مجداً ولكي يترك في هذه الدنيا ذكراً خالداً
ولا تحسبن المجد زقاً وقينة ً
فما المجد إلى السيف والفتكة البكر
وترك في الدنيا دوياً كأنما
تداول سمع المرء أنمله العشر
وكان الأول ينطق بالحكمة ولكنها حكمة شاب ملأت عليه اللذات حياته :
أرى قبر نحام بخيل بماله
كقبر غوي في البطالة مفسد
أما الثاني فقد خبر الدنيا وخبر الناس وعرف أن الحياة صراع الغلبة فيها للأقوى :
من أطاق التماس شيء غلاباً
واغتصاباً لم يلتمسه سؤالاً
إنما أنفس الأنيس سباغ
يتفارسن جهزة واغتيالا
وعرف أن الظلم من شيم النفوس
والظلم من شيم النفوس فإن تجد
ذا عفةٍٍٍَ فلعلة لا يظلم
وأمن أن الهوان والذل موت
ذل من يغبط الذليل بعيش
رب عيش أخف منه الحمام
وعلى الإنسان أن يعيش عزيزاً أو أن يموت كريما :
عش عزيزاً أو مت وأنت كريم
بين طعن القنا وخفق البنود
وإنه ما دام الموت نهاية كل حي فالجبن عجز :
وإذا لم يكن من الموت بدٌ
فمن العجز أن تموت جبانا
والأول قتل لجهله وطعمه ...فقد أعطاه الملك عمرو بن هند -وكان طرفة قد هجاه رسالةً إلى عامله في البحرين ، ولم يكن يعرف القراءة وكان يطمع أن يكون في هذه الرسالة مكاففأة له أو جائزة وكان في الرسالة أمر بقتله ، ولم يخيره أمير البحرين إلا في طريقة قتله ...
أما الثاني فمات وهو يقاتل دفاعاً عن كلمته ...فقد قال :
الخيل والليل والبيداء تعرفني
والسيف والرمح والقرطاس والقلم وكان يستطيع الهرب ولكنه أبى إلا أن يكون كما قال أبو تمام
من قبل :
وقد كان فوت الموت سهلاً فرده
إليه الحفاظ المر والخلق الوعر
ولا شك أن روح التمرد السلبي التي كانت تسري في دم طرفة قد وصلت إلى روح المتنبي تمرداً ضد الذل والخور وثورة على الظلم والفساد.
التوقيع
ما اجمل الجفل اذ تجلوه اشعار واجمل الشعر ما يتلوه بشار