ليمـسح الليـل أوجـاعـي فيغـمـرنـي سكونـه وهو دون الـكون أسـواري وفي زواياي تمشي الروح مسرعةً إليك.. أنت ابتهالاتي وقيثاري
إحترت كثيراً في مدخلي للقصيدة وأنا أحاول اجتياز عتبة النص المأهولة بعامل الغربة في حياة الشاعرة وما جرى لها ففرضت عليّ سمةٌ الدخول للنص بتعريفة موجزة للشاعرة والتي أعرفها منذ زمن بعيد: هي من مواليد بغداد
بكلوريوس اقتصاد/جامعة بغداد
دبلوم تحليل أنظمة من ألمانيا
حاصلة على المرتبة الأولى في دورة مدراء مراكز الحاسبات الألكترونية في العراق- خبيرة أنظمة ألكترونية
قتل زوجها أمام عينيها بدمٍ بارد وهجرت من بيتها عنوة واغتصب دارها ومازال.. وقصة رحلتها طويلة ومؤلمة. اقتباس:
بالرُّغـمِ عشـتُ تفاصيـلـي وأطــواري
ما قـال عمـرِيَ يومــاً هـاكِ فاختـاري
ما دمـتُ مرغَمةً فـي شـأن مزرعتـي
لا ذنبَ لــي إن يكنْ وردي كصُـبّـاري
محسـومــةٌ كـلُّ صـولاتـــي نتائجهـــا
وجدتُه عبثـاً فـي الـزحـفِ إصــراري
عنوان القصيدة ( مشوار )
المِشْوَار: جَوْلَةٌ قَصِيرَةٌ مُحَدَّدَةٌ بِمَسَافَةٍ يَقْطَعُهَا السَّائِرُ. لكن كيف بالمشوار اذا كان طويلاً وبالإكراه؟
ليأتي الإيقاع بصورة هذا المشوار في بنيته النظمية والبلاغية والدلالية (بالرغمعشـتُ تفاصيـلي وأطــواري) بإيقاع داخلي أكثر منه خارجي في دلالاته السطحية والعميقة كما قالت الشاعرة (ما قـال عمـرِيَ يوماً هـاكِ فاختـاري) بطرح معاني وتفسيرات لتترك لنا ظلالاً للمعنى بالإيحاء الى الصراع النفسي في بنية القصيدة بتماثل صوتي يتناسب وتفعيلات البحر البسيط في الكم الصوتي لتأخذ موسيقاه بعداً جوهرياً في القصيدة حين تقول (ما دمـتُ مرغَمةً في شـأن مزرعتـي) ليتجسد الإيقاع الصوري باللغوي منسجماً مع الحس الإيقاعي بمجاز (مزرعتي). وبنغمات تسمو بالموسيقى لتكشف عن النمط التحتي للحقيقة بـ ( لاذنب لي إن يكن وردي كصبّاري) بجودة جرس الألفاظ وائتلاف الحروف بمخارجها والتجنيس بين الورد والصبار فكلا اللفظتين نبات. والفرق أن الورد له ملامح الرفاهية في المعنى المستوحى من قصيدة الشاعرة المغتربة والتشبيه المجازي بلا ذنب لها إن إختلط عليها التشابه بين الورد والصبار وهو النبات الذي يعيش في الصحراء ويضرب المثل به لتحمل العطش والجفاف ويستمر لسنوات. وبالتجربة الحياتية التي عانتها الشاعرة تحاور نصها بمؤهلات الخطاب التشكيلي في النص وعلى مساحات ظلية فردية تعتمد الإنشاء اللغوي في (محسـومـةٌ كـلُّ صـولاتي نتائجهـا) ولاتبتعد عن النبرة الموسيقية المتولدة بين باقات النغم الحزين للناي الواضح في التعبير الزمكاني الذي يتوسم بالإنطباع والعاطفة بحسم النتائج التي ينتج عنها الإطار النفسي في اليأس (وجدتُه عبثـاً في الـزحـفِ إصــراري) لتأصيل ذاتها في حجم المنجز المعتمد في القوة التأثيرية لمعطيات الحالة النفسية والعاطفية. اقتباس:
عـشـت اللـيـالي ثـقـيــلاتٍ دقـائـقـهـا
فـي غربة الـروح لا وكــرٌ لأطـيـاري
إنــي بـشــوق لـروح هـمـهـا أمـلــي
تعـانـق الـريـح حـتى تنطـفـي نــاري
فـهـل علـمـت بـأن الـبـعـد يوجـعـني
ويسكب الشـوق ماءً بـيـن أشجاري
وبتقديمٍ تواصلي في إنارة مقومات النص المؤسس بهيكلية الغربة بعناصرها المفاهيمية لتأثيث التاريخ بـ(عشت الليالي ثقيلات دقائقها) فالتناغم الحسي في هذا الجو الشعري يساوم الأمواج الصوتية في نبراتها ليتناوب بموجبه المؤثر المعنوي بشكليه الصوتي والروحي مستحضراً القيمة الجوهرية في (غربة الروح) لتأخذنا الى مساحةٍ أكبر من الحركة في ذاكرة النص ومكوناته المتصلة بحياة الشاعرة ووجودها في دورق الغربة. لتنطلق من فوهة الناي بأنين تتلاحق مستوياته النغمية بوتر النبض وفق حساسية الشاعرة الفكرية والروحية حين تبوح ( ما يشاكلها إني بشوقٍ لروحٍ هـمـهـا أمـلــي) لتشبع الألحان باستيفاء النغم الثائر فتملأ الأنفاس بالتلوين الصوتي بمجازاتٍ لفظية تعانق الريح لتختلس مواقع النبرات في ( حتى تنطفي ناري) فتستوفي في الضرب من النقرات بفرض الروي الرائي. (فـهـل علـمـت بـأن الـبـعـد يوجـعـني) فهل اسم استفهامي توجهه لوطنها في بنية شعرية تكشف الطبيعة الجدلية لتجلو خاصية الحالة الموجعة للغربة في متاهات الحياة وظاهرة اللغة العاجزة عن التعبير أو الإفصاح عن مواطن الوجع (ويسكب الشـوق ماءً بـيـن أشجاري) لتعليل الحالة وتطمين حالها بأن شوقها يسكب الماء بصورة مجازية بين سني عمرها المغمور بعذاباتٍ نفسية طال مكوثها. اقتباس:
خوفي وهمي احتباس الغيم في وطني
وأن تجـفـف ريــــح الـلـيـــل أنهــاري
وأن يغــادر عـنــي الـطـيـــر مـبـتـعـداً
وأن تعانــي حقـولـي جــدب أمـطـاري
قــد زادنــي الهـــم هـماً انــت تـعـرفـه
فـأيـن لــي بعـدكـم مــأوى لأســـراري
ثم مالبثت أن تفصح بـ(خوفي وهمّي احتباس الغيم في وطني). الخوف: سلوك يتميَّز بصبغة انفعاليَّة غير سارَّة، تصحبه ردودُ فِعْل حركيَّة مختلفة، نتيجةَ توقُّع مكروه. ليتّكئ إيقاع التواصل على التناغم الدلالي بفاعلية النبر وانسجام الحركة المتأتية من استخدام الرموز والإيحاءات في تجلي الرسوم الفنية من كلمات القصيدة حيث تتلاحق الهموم بصور شتى مثل(وأن تجفِّف ريحُ الليل أنهــاري) وأن يغادر عني الطير وأن تعاني حقولي وحسناً اختارت الشاعرة عنصر التجفيف بلفظة الريح لأن هذه اللفطة لا تأتي الا بالشدة وللعذاب وهي مفردة وجمعها رياح يتعاكس معها في المعنى.
وهذا التواصل في الهموم نتيجة الريح التي هبت من شرقك يا وطني فزادت في همومي هموماً أخرى .. وهذا الخطاب للوطن بمستويين أحدهما كيفي يعتمد على النبر في الجملة أو في الكلمة، والثاني تنغيمي يعتمد على أصوات الجمل صعوداً وانحداراً. (فـأيـن لــي بعـدكـم مــأوى لأســـراري) ثم تتسائل (فأين) الفاء من الحروف الـمَهْمُوسةِ ومن الحروف الشَّفَوِية وهي حرف هجاء، مَهْمُوسٌ، يكون أَصلاً وبَدلاً ولا يكون زائداً مصوغاً في الكلام... ومن صفاته الهمس : بسبب أنه لا يمكن الاعتماد على أطراف مخرجها، والحبال الصوتية تهتز بضعف، ولا تختلط كل جزيئات الهواء بالصوت، ويخرج مع الصوت نفس. ونطقه بنهاية الشفة السفلي بالإضافة إلى أطراف الثنايا العليا. (أين) ظَرْف مَبْنيّ على الفَتْح يُسْأَل به عن المكان.
والواقع الشعري اللغوي في جملة ( لي بعدكم ) يثير شعوراً حزيناً جزلاً يتسم بهيبة موسيقاه وجرس نداءٍ لأهلها أهل العراق (مأوى لأسراري) مشفوعاً بعنصري التهذيب والتأثير..
اقتباس:
أسكنـتـك القـلـب مأوىً أنــت سـيـدُهُ
عـلـى يـديـك ابـتـدا للـتـوّ مـشـواري
غــدوت لي مـنـزلاً أحـيـا بـروضـتـهِ
وبــيــن جــدرانـه بـعـضــاً لآثــاري
أصبـحـت لـي أمـلاً أحـيــا بـرونـقـِـهِ
وفـي شروقـك شمسي عانقت داري
ليمـسح الليـل أوجـاعـي فيغـمـرنـي
سكونـه وهو دون الـكون أسـواري
وفي زواياي تمشي الروح مسرعةً
إليـــك.. أنت ابتهالاتــــي وقيثـــاري
بدفقة شعورية تصاحبها موسيقى تتجلى فيها نبرة العتاب بـ (أسكنتك القلب) فالوطن شيء لا يعوض ويبقى في ذهن الإنسان إلى أن يفارق الحياة ثم جعلت منه سيداً يتحكم في نبضاته.
أحبت الشاعرة وطنها فمنحته من أوصاف ما مكّن النقد من الإستعانة بأجزاء الأبيات عن كل حركة وبأوزانه عن كل محاولة لتجسيد الفكرة وإيضاح التعبير كمن يقول وطني من لي بغيرك عشقاً فأعشقه لتمتزج العواطف بالفكر واللغة والرموز والصور والروح. (أصبحت لي أملاً أحيا برونقه) فلمن أتغنى ومن لي بغيرك شوقاً وأشتاقُ لهُم. يتسرب الصوت بباقة نغمية أخرى تجوب خطوط القصيدة بتفاصيلها الدقيقة لتتفاعل الـ عواطف مع مكوناتها بانفعالات نفسية وإيحاءات دلالية (وفي شروقك شمسي عانقت داري) لترسم لنا الشاعرة التوتر الإيقاعي المتناغم مع النفس الشاعرة بإثارة التأمل بالكيفية التي (ليمسح الليلُ أوجاعي) والمعروف بأن كل الهموم والأوجاع تباغتنا في الليل لكن الشاعرة استدركت الحالة بــ(يغمرني- سكونه وهو دون الكون أسواري) ولسان حالها يقول أيها الوطن الحاضنُ للماضي والحاضر سيضلُ حُبك في دمي، لا لن أحيد ولن أميل، سيضلُ ذِكرُكَ في فمي وستبقى أنشودة الحياة وإن غادرت أقدامنا رباك لكن قلوبنا ستبقى هناك.
وفي زواياي تمشي الروح مسرعةً
إليـــك.. أنت ابتهالاتــــي وقيثـــاري
بهذا التفاعل الروحي ونسيج العلاقة بين بنية القصيد ومعناه تتماثل الأصوات للتفعيلات العروضية بعمدة المؤثرات الصوتية لتمنح الإيقاع الموسيقي في هذا النص كماً نغمياً يعانق مشية الروح مسرعة الى الوطن فتعطيه البعد الجوهري في ابتهالاتها بنغم قيثار حبها وعشقها له..
التوقيع
[SIGPIC][/SIGPIC]
آخر تعديل شاكر السلمان يوم 11-09-2022 في 06:31 AM.