الساعة 00:00 بعد منتصف الليل على منتصف ذكرى ، هذا الذي سيحدث بعد عشرين عام.
غرفة الصالة الواسعة تحتلها مدفئة و تلبس جدرانها مكتبة من الحائط إلى الحائط ، مليئة بالكتب من الروايات و الدراسات و كثير من كتب النقد و السياسة و علم النفس ، غرفة توشي بالبرودة و الخواء معا، في وسط الغرفة تمددت طاولة مستطيلة بلون الخمر القاني يرمي إلى السواد ، تعتليها زُهرية بلون النبيذ وضعت فيها بعض الأزهار بشكل عشوائي (غجري الطابع)، و تحت الطاولة تمددت سجادة بنقوش شرقية تكاد لا ترى لأن حجمها لا يتعدى حجم الطاولة،
كانت نافذة واحدة تفتح على حديقتها و المدى ، ستائرها خضراء تتدلى من فوقها حتى منتصفها قطعة قماشٍ حريرية بلون البيج ، باذخة الدفء ، رقيقة الإحساس و الملمس، تبدو كلوحة مهجورة من كثرة الغبار العالق بأطرافها ، أزاحها بعد أن أخذ نفسا عميقا محاولا سحب كمية كبيرة من الهواء و الروائح العالقة بها منذ سنين ، ثم توجه لإحدى رفوف المكتبة ، تناول منها البوم الصور ، نفض عنه غبار السنين وجلس على كرسيّه الهزاز قرب المدفئة ، صار يقلب التاريخ يمر ببعض الصور على عجل و بعضها الآخر يستوقفه فيقف كعمود مصلوب وسط شارع طويل ،كان وهج المدفئة يُنيرُ وجهه و البوم الصور الذي بين يديه ، و في لحظة تكسر الجليد ، ضمه إلى صدره كـأنه يحاول احتضان من في الصور،راسما ملامح وجهها في فضاء بلوري ، فتدحرجت على الخد لؤلؤة عراقية ،
في الخارج تسمع وقع المطر على عشب الأرض و سيلان الماء من السطح عبر ( المزراب ) كان يحدث ضجيجا مستفزا بسبب قربه الشديد من النافذة ، أغلق الألبوم وراح يردد مقولته المعتادة في نفس الموسم ، : من صمم هذا المزراب شديد الغباء و عليه أن يطلب منه تغير مكانه ليريح نفسه من ضجيجه ، وكل عام ينسى طلبه كما نسي أصل الحكاية ، بأنه هو من جعله قريبا من النافذة لأنها هي من طلبت منه ذلك من أجل زهورها و رياحينها التي أتت بها معها من أرضها فلسطين حين جاءت إليه حاملة شوقها المجنون ، و أحلام صغيرة وحقيبة سفر ، تَذّكّر حينها كيف استقبلها و كيف أبقاها تنتظره على مقعدها ساعات و ساعات و هو يقف بعيداً عن نظرها يراقب عصبيتها وحركتها الدائمة المعتادة على الخد و نصف الفك تفركها بعصبية مستفزة صفاء الوجه، كان يستلذ بالنظر إليها و مراقبة ارتباكها من بعيد ، حتى تيبس وجهها و أذهب ماءه طول الانتظار ، وحين همت بمغادرة مقعدها اقترب منها ولم يستطع أن يخفي دقات قلبه المتسارعة طربا للقائها ، وحين اقترب منها أكثر لامس كتفه كتفها فقالت له: عذراً سيد الرجال أنا البلهاء ،
قَبَّل جبينها قائلاً شكراً لأنك تبسطين يد الضوءعلى كتفي لتعيدي إليه الدفء وشكراً لأنكِ اكتشفتِ حقولي التي لم يطأها النبض،.
ذات مساء ، همست له بعد أن التصقت به : بحثتُ عن روحك المختبئة خلف الكلمات ،فكنتُ أحلق في تلك العوالم الموحية بالجمال ،لكني وجدتُ هنا هواء خانق رغم اتساع المساحات ..
تَذّكّر كوب القهوة المرتعش بين يديها و هي تحاول بضمه منعه من الانسكاب فوق فستانها الذي كانت قد أخبرته مسبقا بأنها سترتديه في لقائهما الأول خصيصا له ، قالت له : حين أرتدي الفستان ستّخْلقُ لي من نظراتك ايقاعا جديدا ، و قسمات جسدي تصير أجمل حين تنظر إليّ.
يتبع....
التوقيع
لايكفي أن تطرق باب الإنسانية لتحس بمجيئها نحوك , عليك أن تخطو تجاهها و التوقف عن الاختباء خلف الزمن,