على باب الهيكل ***************** على باب الهيكل قد طهَّرتُ شفتيَّ بالنار المقدَّسة لأتكلَّم عن الحب، ولَّما فتحت شفتَّي للكلام وجدتُني أخرس. كنت أترنّم بأغاني الحب قبل أن أعرفه. ولما عرفته تحوَّلتِ الألفاظ في فمي إلى لهاث ضئيل، والأنغام في صدري إلى سكينة عميقة. وكنتم أيها الناس، فيما مضى، تسألونني عن غرائب الحب وعجائبه، فكنت أحدثكم وأُقنعكُم. أما الآن، وقد غمرني الحب بوشاحه، فجئتُ بدوري أسألكم عن مسالكه ومزاياه فهل بينكم من يجيبني ؟ ... هل بينكم من يستطيع أن يُبَيِّن قلبي لقلبي ويوضح ذاتي لذاتي؟ ألا فأخبروني ما هذه الشعلة التي تَتَّقِد في صدري وتلتهم قواي وتُذيب عواطفي وميولي؟ وما هذه الأيدي الخفية الناعمة الخشنة التي تَقبضُ على روحي في ساعة الوِحدة والانفراد، وتَسكب في كبدي خمرة ممزوجة بمرارة اللذة وحلاوة الأوجاع؟ وما هذه الأجنحة التي تَرفرف حول مضجعي في سكيِنةِ الليل فأسهَرَ مترقباً ما لا أعرفه، مُصغياً إلى ما لا أسمعه، مُحدّقاً إلى ما لا أراه، مفكّراً بما لا أفهمه، شاعراً بما لا أُدركه ، مُتأوِّهاً لأَنِّ في التأوُّه غصَّات أَحبَّ لدي من رنةِ الضحِكَ والابتهاج، مستسلماً إلى قوةَ غيرِ منظورة تُميتُني وتُحييني ثم تُميتُني وتُحَييني حتى يطلع الفجر ويملأ النور زوايا غرفتي فأنام إذ ذاك... وبين أجفانيِ الذابلة ترتعش أشباح اليقظة وعلى فراشي الحجري تتمايل خيالات الأحلام. وما هذا الذي ندعوه حباً؟ أخبروني ما هذا السر الخفيّ الكَامِن خلفَ الدهور، المختبئ وراءَ المرئَّيات، السَّاَكِنُ في ضمير الوجود؟ ما هذه الفكرة المطلقة التي تجيءُ سبباً لجميع النتائج وتأتي نتيجة لجميعِ الأسباب؟ ما هذه اليقظة التي تتناولِ الموتَ والحياة، وتبتدعِ منهما حلماً أغرَبَ مِن الحياة وأعمق من الموت؟ أخبروني أيها الناس. أخبروني هل بينكم من لا يستيقظ من رقدة الحياة إذا ما لمس الحبُّ روحَه بأطرافِ أصابعه؟ هل بينكم من لا يترك أباه وأمَّه ومَسقط رأسه عندما تناديه الصبيةُ التي أحبَّها قلُبه؟ هل فيكم من لا يمخر البحر ويقطع الصحاري، ويجتاز الجبال والأودية ليلتقي المرأة التي اختارتها روحه؟ أي فتى لا يتبع قلبه إلى أقاصي الأرض إذا كان له في أقاصي الأرض حبيبة يستطيب نكهة أنفاسها، ويستلطف ملامس يديها، ويستعذب رَّنة صوتها؟ أي بشريّ لا يحرق نفسه بخوراً أمام إله يسمَعُ ابتهاله ويستجيبُ صَلَوَاتِه؟ وقفتُ بالأمس على باب الهيكل أسأل العابرين عن خفايا الحب ومزاياه. مرَّ أمامي كهل... وقال متأوهاً: الحبُّ ضعف فطري ورثناه عن الإنسان الأوّل. ومَّر فتى ... مفتول الساعدين وقال مترّنماً : الحبُّ عزم يلازم كياننا ويصل حاضرنا بماضي الأجيال ومستقبلها. ومَّرت أمرأة كئيبة... وقالت متنهدة: الحب سمٌ قتَّال تتنفسه الأفاعي السوداء... ومَّرت صبية موردة الوجنتين وقالت مبتسمة: الحب كوثر تسكبه عرائس الفجر في الأرواح... ومرَّ طفلٌ ابنُ خمس وهتف ضاحكاً: الحبُّ أبي والحبُّ أمي. وانقضى النَّهار. والناس يَمُرُّون أمام الهيكل. وكلٌ يصور نفسَه متكّلِماً عن الحب، ويبوح بأمانيه مُعْلناً سرَّ الحياة. ولَّما جاء المساء، وسكنت حركة العابرين، سَمعْتُ صوتاً آتياً من داخل الهيكل يقول: الحَياة نصفان: نصف متجلّد ونصف ملتهب. فالحب هو النصف الملتهب. فدخلت الهيكل إذ ذاك، وسجدت راكعاً، مبتهلاً، مصلياً، هاتفاً : اجعلني يا رب طعاماً للهيب. اجعلني أّيها الإله مأكلاً للنارِ المقدسة آمين جبران خليل جبران