من كتابه "درة الغواص في أوهام الخواص"، وعنونة الاقتباسات من عندي أنا.
***
أثر فتح العين وتسكينها على المعنى
ويقولون: اعمل بحسب ذلك بإسكان السين، والصواب فتحها؛ لتطابق معنى الكلام؛ لأن الحسب بفتح السين هو الشيء المحسوب المماثل معنى المثل والقدر وهو المقصود في هذا الكلام، فأما الحسب بإسكان السين فهو الكفاية ومنه قوله تعالى: (عطاء حسابا) أي كافيا.
وليس المقصود به هذا المعنى وإنما اعمل على قدر ذلك، ويناسب هاتين اللفظتين في اختلاف معنييهما باختلاف هيئة أوسطهما قولهم: الغبن والغبن، والميل والميل، والوسط والوسط، والقبض والقبض، والخلف والخلف. وبين كل لفظتين من هذه الألفاظ المتجانسة فرق يمتاز معناهما فيه بحسب إسكان وسطها وفتحه؛ فالغبن بإسكان الباء يكون في المال وبالفتح يقع في العقل والرأي، والميل بإسكان الياء من القلب واللسان وبفتحها يقع فيما يدركه العيان، والوسط بالسكون ظرف مكان يحل محل لفظة بين وبه يعتبر والوسط بفتح السين اسم يتعاقب عليه الأعراب لكل واسطة من جميع الأشياء؛ ولهذا مثل النحويون فقالوا: يقال: وسط رأسه: دهن، ووسط رأسه: صلب.
والقبض بإسكان الباء مصدر قبض وبفتحها اسم الشيء المقبوض، وأما الخلف فعند أكثر أهل اللغة يكون بإسكان اللام من الطالحين، وأنشدت لأبي القاسم الآمدي في مرثية غرة خلف عرة:
خلفت خلفا ولم تدع خلفا ... ليت بهم كان لا بك التلف
وقيل فيهما: إنهما يتداخلان في المعنى ويشتركان في صفة المدح والذم فيقال: خلف صدق وخلف سوء، وخلف صدق وخلف سوء. والشاهد عليه قول المغيرة بن حنباء التميمي:
فنعم الخلف كان أبوك فينا ... وبئس الخلف خلف أبيك خلفا
وقال بعضهم: إن الخلف بفتح اللام من تخلف في أثر من مضى، والخلف بالإسكان اسم لكل قرن مستخلف. وعليه فسر قوله تعالى: (فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة). وعليه يؤول قول لبيد: "وبقيت في خلف كجلد الأجرب"، يعني به القرن الذي عاصره آخر عمره.
وحكى أبو كبر بن دريد قال: سمعت الرياشي يفصل بين قولهم: أصابه سهم غرب بفتح الراء وغرب بالإسكان، وقال: المعنى في الفتح أنه لم يدر من رماه وفي الإسكان أنه رمى غيره فأصابه ولم يميز بين معنى اللفظتين سواه.