هذا حالي و أخشى أنني اعتدت عليه..أعيش في حجرة مظلمة..أقبع في أحد زواياها..أحاول أن لا أتكأ على جدارها…ذاك الخشن الملامح كقبضة سجاني..لكن أحلامي تأبى إلا أن أسند رأسي لواقعي المرير..الذي يدمي القلب…
حكايتي ليست سوى بضع سطور… و ما أصعب أن يخط الانسان حكاياته باختصار…حكايتي ..أمجاد تاريخ يعبق بالنصر الشهيد..و وقت لم يكن قط في ذاكرة الزمان….. لي نافذة صغيرة..من خلق قضبانها يتحرر إحساسي..يفرد جناحيه تحت أشعة الشمس الباردة-تلك التي رهنتها ظلي ذات مرة حين تلفعت باصفرارها الكئيب- ليذيب جليدهما الازلي…علّها اليوم تساعده على أن يصهر نفسه مع بقايا روحي المتناثرة هنا..و هناك…أو تحرضه فيثور.. و يرفض عهدا فرضته جنود الظلام ..على سماء في قلبها تقيد حمامات السلام… يهوي من فمها غصن الزيتون الحزين..على الأرض ..تتدافعه أقدام الهمجيين…على أرض كذبة فيها السلام…..
تهب من حيث لا أدري..نسمات تحفر الرعشة في عظامي…التي منذ وضعت عمري تحت تصرف عقارب الزمن..تلك التي تقتل الدقائق…و تغتال الثواني…أصبحت بالية..كحال سني الغالية..يريد الهواء بهذا أن يوقف بعض تمردي..فرفقا بي أيها البرد…إن الذي لا يملك الحواس يكاد يدرك كم غطائي نتن الرائحة!…هل لنا بهدنة..؟!فالتعطني بعض النجوم التي كنت في الماضي البعيد أزين بها شعري…لاجعلها اليوم وسادة..و بها أتلحف الفضاء..أليس هذا ما يسمونه ديمقراطية؟..لطالما كان الانسان..مدعي حرية…
في هذه الاثناء يزورني..بعض ضوء القمر..فنثرثر معا بصمت..نعيش اللاحروف…في سكوت الكلام.. نطرب بصداه الابكم…و ننسج معا حكايا كثيرة…لكنه سرعان ما يغادرني..فأعاود الجلوس وحدي…أبحر في زورق الخيال..فيركبني البحر اللجي…و تبدأ أمواجه صراعاها الغاضب..منكسرة.. في داخلي.. و تعلو .. و تعلو…بلا ارتفاع..! فأصاب بدوار المفردات..كم أعشق الخروج عن المألوف..و رهبته اللذيذة… لكن الغرق المحتوم..يدفعني بطيات غدره.. ويلقى بي إلى شاطىء المحال ..تلك عادتي..و قد أدمنتها..أسهر على ذكرى (وطن)… و أحلم بفوضى اللقاء……. يقطع علي مشهدي..ذاك الوجع المقيم..لجرح اليأس القديم…
ليتني أجد تلك مسكينة التي تحمل وزر السلام ..عن كل الأنام..حمامة صغيرة …اغتال لونها الزمان..فأعيد لها بأشلاء الأمل ..بعضا من بهجة الابيض…أناديها :هلمي…شاركيني وحدتي و انعزالي ..فتحط على أصابعي التي أرهقها التعب…لو أنها تأتي ..لاخبرتها أصدق حقيقة..لاخبرتها كم في هذا العالم الكبير …من حر أسير… لابتسمت متنهدة بحزن .. عميق …يهمس بحرقة … الاسرى هم من يبيعون الاوطان..هم أسرى بلا قيد..بلا وجع..بلا عذاب..أسرى أنفسهم ..هم ذاتهم من ثبطوا عمل الضمير… لكنت اطلعتها على اخر الحقائق في جعبتي..و قلت بصوت تقطعه مرارة الاسى و الانين…(هم أسرى بحرية) … إن كان قدسنا أسير..إن كان أقصانا أقدم الاسرى..فمن قد يعبأ بعد ذلك بتراب مرده للتراب؟! …
نحن ها هنا - نعيش - أحياء أموات..في كل يوم يمر ..ندفن أحلامنا في مقابر (الحياة)..و يبقى لنا (الموت) بكل خلوده الاسطوري… بشلال الدمع…نبكي ..بغير انقطاع…فذكرياتنا كانت يوما واقعا…بينما واقعنا الان…لن يعدو كونه..مجرد ذكريات.. بكلماتها المشنوقة على أسوار مدينتي الضائعة تتعثر كل ذات.. يا سراب حمامتي الجميلة..التي تجتاح أجواء نفسي..أخبري أصدقائك..أولادك…أحفادك…و خصوصا.. ذاك الصغير..قولي له بفم مل حمل أغصان الزيتون ..و بقايا حروف الصمت :إن أردت غصنا من أرضك..اقتلعه أنت..و لا تنتظر أن ترسمه لك ريشة رسام..فالفن ..في بلادنا ..نفاق..و حرام…لكننا اعتدنا أن تستباح حرماتنا..و اكتفينا..بأضعف الايمان..أو ربما لم نفعل..! ..
يا صغير..حرر جناحك الاسير…طر و حلق في الفضاء..سر كالامير.. اخبر جيشك أن يتبعوك..و احشد الحشد الغفير..و مر أسراب العصافير… فأرواحنا فدى الوطن ستبقى سرمدا..رخيصة الثمن.. فلا بد للشمس المكبلة بقضبان الوجود من اشراقة..و ستتحرر يوما خيوطها الذهبية…لتنير سماء العزة و الحرية.