أحببت إطلالتك من قاسيون في أمسيات الصيف ، حين تسترجع أضواؤك معاني الحب الجميل الذي عشته يوماً في ردهات كلية آدابك بعيد مغرب الشمس .
أحببت الزقاق العتيق الذي كنت أعبره ليلاً فيختلج قلبي تأثراً ، و تتشظى خطواتي على هدأة السكون ، ثم تعيدني إلى الواقع أنوار الشارع الباهتة ، المثبتة مصابيحها على جدران البيوت القديمة .
أحببت ذلك الجالس دوماً بجانب مدرستنا الثانوية ، وسخ الثياب ، منسياً نفسه مآسيها بزجاجة شرابه التي يمسكها دوماً بيده في صحوه و في نومه ، ذلك الذي كنت كلما مررت به وجدت مشهده مقززاً و منفراً ، لكنه في الوقت نفسه لم يكن يوماً إلا على غاية من السكينة و الوداعة ، كان مشهده ذاك يتكرر أمام ناظريَّ كل يوم ، قبل أن تصعد فوقه سيارة مسرعة لسائق طائش بعيد منتصف إحدى الليالي .
أحببت في حينا سوقه التراثي ، و مسجد الشيخ محيي الدين الذي يتوسطه ، و أزقته الملتوية التي لا يمل السير فيها من عرفها ، أحببت حتى أولئك الشحاذين و الفقراء و أصحاب العاهات الجالسين عند بوابة جامع الشيخ الأكبر يرجون زائريه العون مما تجود به الأكف .
أحببت الفتاة التي كانت تخرج من بيتها المقابل لمدرستنا كل يوم ، يزغرد شعرها الأسود الفاحم و هو يتمايل على ظهرها ، و تنحني أوراق شجيرات الحي لنعومتها و عذوبتها ، حتى تكاد تنطق بمغازلتها .
أحببت بائع الحمص الشعبي الواقف عند باب مدرستنا منذ عقود ، لم تتغير وقفته على أن شكله و لون شاربيه و شعره تغيرا كثيراً ، يبيع الطلاب الداخلين و الخارجين المزدحمين عليه حتى لا يبدو للمارين في الطريق ، و على أن نظافة ما يصنع لم تكن كما ينبغي ، فإنني لم أمنع نفسي يوماً تناول الحمص الحار الذي يهيئه للمشترين .
أحببت خادمة الجيران التي كانت تطل كل يوم سبت من النافذة المقابلة لغرفة صفنا في الأول الثانوي ، أحببت ملابسها البسيطة ، و بياض جلدها المدهش ، و عملها الدؤوب في التنظيف الذي كان يستغرق الحصتين الثالثة و الرابعة كليهما .
أحببت كل شبر من حينا المتسع بقلوبنا و ذكرياتنا ، أحببت طرقه و مسالكه و دروبه القديمة منها و الحديثة ، أحببت سكانه و زواره ، أحببت أخياره و شراره ، أحببت كل ما فيه ، و ما أحسب يوماً أن ما عشت من ذكرياته سيخلو منه قلبي ،مهما يكن من أمر هذه الدنيا و ما فيها .
صحيح أن كثيراً مما كان معلماً راسخاً فيه قد تبدل بشكل أو بآخر ، لكنَّ هواه في قلبي و الأحاسيس المرتبطة به لم تبدلها السنون .
نعم .. تبقى الصالحية ، و تبقى دمشق ، و تبقى سورية كلها ، و إن تبدلت الأرض و من عليها ، و غدا وجهها مغبراً قبيحاً .
تبقى راسخة في الأرواح قبل العيون ..
تبقى لأنها وحدها الحسناء التي عرفناها و ألفناها و أحببناها ، و لم تغادر قلوبنا لحظة من ليل أو نهار .
و لئن رحل راحلون ، و تغيرت بلدان و سكان ....
فستبقى يا وطني أنت الوحيد الخالد ، و من سواك يمضون و ينساحون في مساربهم ، فتودي بهم الرياح .
لأنك أنت دوماً .. الثابت الذي لا يتحول ، و الراسخ الذي لا يزول ، و غيرك المتحولون الذين لا يثبتون ، و الزائلون الذين لا يخلدون .
التوقيع
الأديب هو من كان لأمته و للغتها في مواهب قلمه لقب من ألقاب التاريخ