يحيي الشعب الفلسطيني في الوطن المحتل وفي الشتات الذكرى السنوية الثالثة والستين لنكبته التي ما زالت تعايشه، وتستوطن حنايا ذاكرته، وكل تضاريس وجدانه وأحاسيسه. وقد يظن البعض أن النكبة الفلسطينية محصورة في اليوم الخامس عشر من شهر أيار/مايو 1948.
حقيقة الأمر أن هذا اليوم في التاريخ الفلسطيني الحديث قد أصبح عنوانا ومدخلا إلى النكبة الفلسطينية التي ابتدأت فعليا قبل هذا التاريخ، و هي لم تقف عنده، وتجاوزته بتداعيات وإفرازات كارثية، أضيفت الى سجلها طيلة ما تبقى من القرن العشرين المنصرم، لتدخل القرن الحادي والعشرين وما زالت مفتوحة على المزيد من المآسي.
يمكن القول إن الإعداد للنكبة الفلسطينية، قد بدأ في نهايات القرن التاسع عشر وتحديدا في العام 1897. إلا أن العام 1917 وهو العام الذي أصدرت فيه حكومة بريطانيا العظمى على لسان وزير خارجيتها آنذاك اللورد بلفور وعده المشؤوم في الثاني والعشرين من تشرين الثاني/نوفمبر لذلك العام، فقرع بذلك أجراس النكبة الفلسطينية التي ما زالت تقرع حتى الساعة.
غداة هذا الوعد المشؤوم، احتلت بريطانيا العظمى في العام 1918 فلسطين، وفرضت عليها انتدابها. وعلى مدى ثلاثين عاما من انتدابها هذا، عملت الحكومة البريطانية على ترجمة وعد بلفور على أرض الواقع. فكانت والحق يقال سياسات بريطانيا في فلسطين هي المسؤولة مباشرة عن كل ما حل بالشعب الفلسطيني الذي صحا صبيحة الخامس عشر من أيار 1948 على حدثين خطيرين. الأول إعلان بريطانيا أنها أنهت انتدابها على فلسطين، وأوكلت أمرها للأمم المتحدة. والحدث الثاني هو إعلان قيام دولة إسرائيل.
لقد جسد الخامس عشر من أيار 1948 النكبة الفلسطينية، وأعطاها بعدا كارثيا خطيرا، تمثل في اقتلاع الشعب الفلسطيني من وطنه التاريخي، حاملا معه مأساة قلّ نظيرها في التاريخ الإنساني، ليضع تعريفا مفتوحا لمفهوم النكبة الفلسطينية يتسع لمزيد من الإضافات الكارثية.
هكذا فإن النكبة الفلسطينية ابتدأت بالفعل، يوم أصدرت بريطانيا وعد بلفور في العام 1917، وما تبعه من سياسات مارستها على مدى ثلاثين عاما من انتدابها لفلسطين، عملت خلالها على إضعاف الفلسطينيين وقهرهم من خلال منظومة قوانين تعسفية فرضتها عليهم، في حين أنها بسطت يد العون للطرف الآخر من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وأقلها فسح المجال أمام الهجرات اليهودية المتوالية.
في الخامس عشر من أيار 1948، أعلنت بريطانيا إنهاء انتدابها على فلسطين، إلا أنها زرعت في أرضها بذور مأساة انسانية كبرت مع الأيام، وخرجت إلى أبعد من جغرافيا فلسطين بكثير. ومن رحم هذه المأساة ولدت القضية الفلسطينية التي نفضت بريطانيا يدها منها، وكأن الفعلة النكراء هذه لم تقترفها أيديها. وعلى مدى سنوات النكبة أدارت ظهرها للفلسطينيين، فلا حكوماتها العمالية، ولا تلك المحافظة حاولت مرة أن تحاسب نفسها، أو أن تنقذ ما يمكن انقاذه تحت ظلال هذه الكارثة التي صنعتها سياستها الإستعمارية.
لقد تغاضت بريطانيا عن مسلسل المآسي اليومية التي يفرزها الإحتلال الإسرائيلي لكامل التراب الفلسطيني، وبدل أن تتفهم حقيقة مشاعر الإحباط واليأس وخيبات الأمل التي غرق الفلسطينيون في مستنقعاتها، الأمر الذي دفعهم للنضال من أجل استعادة حقوقهم التي كفلتها لهم قرارات الشرعية الدولية، فوجىء الفلسطينيون بانضمام بريطانيا بالذات إلى جوقة المعادين لقضيتهم العادلة، الناكرين لها، الذين يدينون هذا الحق المشروع، ويصفونه بأعمال عنف وإرهاب.
واذا كانت هذه هي خلاصة السياسة البريطانية، فان مواقف الاتحاد الاوروبي التي تبدو في الظاهر أنها مغايرة للسياستين البريطانية والاميركية فيما يخص القضية الفلسطينية، الا انها في الحقيقة تنبع من مصالح لا مبادىء، وأنها في كثير من الاحيان تأخذ في الحسبان الحفاظ على مستوى علاقات لا تغضب كلا من أميركا واسرائيل.
علاوة على ذلك – وهذا هو الأهم – فالاتحاد الاوروبي لا يتفهم كنه ما يناضل الفلسطينيون من أجله والذي يصفه في احيان كثيرة بأنه ضرب من العنف والإرهاب منساقا بذلك وراء مفاهيم السياسات الاميركية والاسرائيلية المعادية، وليس موقف الاتحاد بأفضل منه في اللجنة الرباعية.
لقد عول الفلسطينيون على الشرعية الدولية المتمثلة في الأمم المتحدة من خلال مؤسستيها الرئيستين مجلس الأمن الدولي والجمعية العمومية. وفي كل المرات أثبتت كل تجارب الفلسطينيين أن الأمم المتحدة بكل مؤسساتها تعمل وفق آليات هيمنة الدول الكبرى عليها، وتحديدا الولايات المتحدة، وليس أدل على ذلك من الفيتو الأميركي الذي يقف للحق الفلسطيني بالمرصاد، ومن قبله ذلك الكم الهائل من القرارات الصادرة التي ظلت حبرا على ورق. إنها بلا شك شرعية القوة لا قوة الشرعية.
في الذكرى السنوية الثالثة والستين للنكبة الفلسطينية، فإن الحديث عن سياسات الولايات المتحدة التي نصبت نفسها راعيا للعملية السلمية، يثير شجونا وأشجانا لا حدود لها. إن الفلسطينيين قد أصبحوا على إدراك تام أن سياسات الإدارات الأميركية مخادعة، ومثالا لا حصرا خدعة رؤية الدولة الفلسطينية التي مضى عليها أحد عشر عاما عجافا، وما زالت دون تعريف لها ولا تحديد لمعالمها. وها هي خارطة الطريق، وها هو لقاء أنابوليس. وها هو باراك أوباما الرئيس الرابع والأربعون للولايات المتحدة الأميركية، وغيرها الكثير الكثير. إلا أن المحصلة واحدة، المزيد من التسويف والوعود الكاذبة والمماطلة واللعب في الوقت الضائع.
إلا أن الأخطر في السياسة الأميركية ما فعله الرئيس الأميركي السابق جورج دبليو بوش الذي أدخل عليها نقلة نوعية، فأضاف إليها عناصر جديدة معادية إلى أقصى حدود للقضية الفلسطينية، فأراد أن يكون"بلفور الثاني"، فأعطى وعده المشؤوم لشارون يوم كان رئيسا للحكومة الإسرائيلية بإفراغ هذه القضية من مضامينها، فألغى حق العودة، وأباح الإستيلاء على أراضي الفلسطينيين بما فيها القدس، ومنح الإستيطان الإسرائيلي القائم على الأراضي الفلسطينية المغتصبة صك الشرعنة الأميركية .
عربيا وإسلاميا، فبعد ثلاثة وستين عاما يتذكر الفلسطينيون أشقاءهم العرب والمسلمين الذين كانوا شركاء حقيقيين، يوم كانت فلسطين قضيتهم الأولى انطلاقا من أنها ليست كأي قطر آخر باعتبارها جزءا لا يتجزأ من جغرافيا التاريخ والعقيدة الإسلاميين، وأن القدس بأقصاها المبارك وصخرتها المشرفة ليست ملكا للفلسطينيين وحدهم، وأن حق الدفاع عنها يفترض أن يكون على كل عربي ومسلم.
واليوم، وبعد ثلاثة وستين عاما هي عمر النكبة، فقد الفلسطينيون العمقين العربي والإسلامي، وأصبح الشركاء على السراء والضراء لا مبالين ولا مكترثين أو أنهم متفرجون صامتون على ما يجري في أرض الإسراء والمعراج، أو أنهم متعاجزون عن فك الحصار عن الشعب الفلسطيني. ورحم الله عهد اللاءات والمقاطعة والثوابت القومية التي أصبحت شيئا من الماضي، ورحم الله تلك الحمية والشهامة والنخوة التي انطفأت جذوتها، وأصبحت رمادا تذروه رياح التقوقع والإنقسام في مذبح التطبيع والدوران في فلك السياسة الأميركية.
على صعيد الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وبعد ثلاثة وستين عاما، فقد تمكنت إسرائيل من زرع ما تبقى من الأرض الفلسطينية بالمستوطنات، واقامت الجدار الفاصل، وقطعت أشواطا بعيدة المدى في تهويد القدس، وصادرت كل ما تريده من الأرض ما عليها وما فوقها وما تحتها، بعد أن قطعت أوصالها، وعبدت شبكة الطرق الإلتفافية الإستيطانية، ونصبت النقاط والحواجز الأمنية. وها هي تصول وتجول في الأراضي الفلسطينية، تجتاح، تعتقل، تقتل، تهدم، تجرف كما يحلو لها.
في ضوء هذا المشهد المأساوي، قد تظن إسرائيل ومن يقف وراءها أن الستار قد أسدل على القضية، وأن كل شيء قد انتهى، متوهمة أن تسوياتها وحلول مشكلاتها الأمنية مع الآخرين وليس مع الفلسطينيين، وأنها بعد ثلاثة وستين عاما على النكبة وغياب السلام والأمن والأمان عن المنطقة ومساحة شاسعة من العالم تتجاهل أن هناك عنصرا واحدا ووحيدا لاستتباب السلام وعودة الأمن والأمان، وهو بلا أدنى شك الحق الفلسطيني الذي اغتيل يوم الخامس عشر من أيار 1948.
إستكمالا، ودائما على الصعيد الفلسطيني، وهو الأهم. سيظل الخامس عشر من أيار/ مايو أبجدية نكبة محفورة حروفها على جدار الذاكرة الفلسطينية، وحكاية أرض سليبة وشعب منفي عن وطنه التاريخي، وشعلة إصرار على استرجاع الحق لا يخمد لهيبها مهما طال الزمن وتراكمت التحديات وتعاظمت. إن الشعب الفلسطيني في أيار/ مايو 2011، وفي كل أيار/ مايو آمن وما زال يؤمن– وإن وقع فريسة الإحتلال– أنه لم يهزم وأن عدوه لم ينتصر عليه.
كلمة أخيرة. إذا كانت النكبة مسلسل آلام وأحزان لاينتهي، فثمة حقيقة لا ينبغي أن تغيب عن بال أي طرف كائنا من كان، مفادها أن ثوابت القضية الفلسطينية هي الأخرى مسلسل لا تنتهي فصوله. إنها حق يأبى النسيان، ما دام خلفه مطالب.
غداة النكبة، قال القادة السياسيون الإسرائيليون يومها عن الفلسطينيين: "الكبار سيموتون، والصغار سوف ينسون". وها هي النكبة تدخل عامها الرابع والستين، وإذا كان الكثيرون من الكبار قد ماتوا، فان أجيال الصغار جيلا بعد جيل لم تنس، ولن تنسى. إن النكبة ذاكرة شعب، ذاكرة وطن، لا تقوى الأيام على إطفاء شعلتها مهما اشتدت أعاصير التحديات، وطال الزمن. ولا يزال مفتاح الدار التي سلبت ذات يوم، إرثا تتناقله الأجيال، وأمانة في الأعناق.
التوقيع
أعزائي الكرام
تحية طيبة
يسرني أن أقدم نفسي لكم
أنا د . لطفي زغلول
شاعر وكاتب فلسطيني
رئيس منتدى شعراء الفصحى
في موسوعة الشعر العربي