إبتداء القصة القصيرة جدا فن أدبي فرض نفسه رغم انه من أكثر أنواع الأدب القصصي صعوبة لذا فان الكثير من الكتاب المتمكنين من حيث الصنعة الفنية ينأون عنها لصعوبة تكنيكها وللقيود الخاصة بها، لكنها تظل نصا فنيا جميلا يعتمد اللفظة الفنية المكثفة وتحرك أذهان المتلقين بعد أن تجتاز كل المســــــــــــــــافات لتدخل دائرة الإبداع.
و قيل أنها محبكة الإتقان، ذلك أن عملية إبداع هذا النص تتطلب صيغة من نوع راق إضافة الي قابلية الابتكار. كما أنها اقرب الأنواع الأدبية الي الطبيعة غير المتكلفة، فهي إبلاغ موجز متناغم مع لغة شعرية عالية فيها يمنح القاص قصصه بعدا شعريا انتقائيا لاستخدامه اللمحة الشعرية السريعة التي تحمل خلاصة موجزة للفكرة بلمحة ثاقبة لحدث شائك.
منهم من شبهها بالشعر و بعضهم من لم يعترف بها كجنس أدبي، لكنها ظلت فارضة نفسها بفضل كتابها الذين لم ينقطعوا عنها رغم إهمال اغلب النقاد لها. وتعد الفرنسية ناتالي سوروت 1937 من أوائل من كتب القصة القصيرة جدا في مجموعتها التي ترجمت الي العربية أوائل السبعينات والمعنونة ( انفعالات ) التي بدا أبطالها وكأنهم ينبعون من كل مكان وينضحون من الجدران والحدائق والميادين. وفي ذات الفترة كتب الامركي آرسكين كالدويل ما يصح تصنيفه بالقصص القصيرة جدا، اطلق عليها حينها ( الومضة القصصية ) أو ( الضربة الخاطفة غير القابلة للتأجيل ) أو ( أقصوصة الحلم والدعابة ).
وفي العراق بدأ الاهتمام بها في العقود الأخيرة من القرن الماضي حينما ظهرت بعض المحاولات الكتابية التي تحمل سمات متأثرة - ربما - ببعض التجارب العالمية التي سبقتها في هذا المجال.
ويعد ظهور هذا النوع من الفن القصصي تجديدا للعلاقة ما بين القصة القصيرة جدا والواقع بحكم عوامل تاريخية وحضارية اعتمدت التكيف والإيجاز والتقاط الذروة الدرامية، وخلاصة اللحظة المكتظة بالحياة الإنسانية بما ينسجم و إيقاع الحياة العصرية والتقدم التكنولوجي وميل الناس الي الإيجاز والبساطة وحالة التوتر والتأزم الملازمة لواقع تقدمت فيه العلوم الحديثة وتشعبت الرؤي الإبداعية. اخذ هذا اللون القصصي يغوي عددا متزايدا من كتاب قصيدة النثر، لما بين الاثنين من تنافذ اجناسي وتكثيف كما أن هناك مقصا للكثير من الزوائد والمفردات المكررة إضافة الي أن الترابط بين الثيمات يعمل علي صناعة نص مبني بحرفية ورصانة دونما إسفاف أو ترهل، فالقاص هنا هو الشاعر الذي يبتكر الأشياء الجديدة والفكرة هي ثيمة القصة ونقطة ارتكازها، فالزمن غير محسوب إذ انه محرك خفي لمحور بناء القصة القصيرة جدا، ولأنه لا مساحة بائنة فيها للزمانية، فيمكن عدها ومضة يقتنصها من يشتغل عليها ليمنحها المتلقي الحذر الذي لا يتسع وقته إلا لها لكنها تظل تقبل التأويل.
إن قصة من هذا النوع تطرح في الغالب تجربة علي نار ملتهبة فيها مزاوجة ما بين الحلم والواقع علي شكل هندسي محدد الأبعاد يعرض جانبا مهما من جوانب الواقع.
والقصة القصيرة جدا لاتتعدي بضعة اسطر غالبا و أحيانا تختزل الي بضعة كلمات، لذا فهي تمثل حدثا واحدا وتتناول شخصية مفردة، فكاتبها لايهتم بالجزئيات، وطريقة المعالجة لديه ترتبط بالموضوع والفكرة دونما اهتمام بالسرد.
ومن ابرز مميزاتها الخروج من الأبعاد الإغريقية الثلاث التي تتجسد في وحدة الزمان والمكان والحدث، ذلك إن الزمن فيها غير محسوس بل هو محرك خفي لمحور بناء القصة.
و أكثر كتابها إما شعراء أو روائيون، والقاص فيها هو الشاعر الذي يبتكر الأشياء الجديدة.
إن اسلوب القصة القصيرة جدا يقترب من الشعر في ومضته المشحونة بالخيال والموسيقي لكنه مختلف عنه في الحدث وعنصر الفعل والمحيط مع إضاءة سريعة للحظة المكانية المكتفية بذاتها المستغنية عن التفاصيل التي تفسرها أو تبعدها عن هدفها.