سارت نحو مكتبها الصغير الذي يقع بزاوية الغرفة و استلت من أحد أدراجه دفتراً غلافه وردي اللون مزيناً بالأزهار الجميلة.. وله مفتاح مزخرف، فهي كأي فتاة تحب اللون الوردي .. ولكن على مر السنين تحولت الى الألوان القاتمة التي تعبر عنها أكثر.
بدأت بالتصفح والنعاس يتسلل الى جفونها وعيونها تلمع بدمعة تحبسها .. تقلب الصفحات وتنظر الى ما كتبته في السابق من يوميات .. وحتى بعض الصور التي الصقتها وكتبت تحتها ملاحظات .. إنها صور تحكي عن أيام عاشتها .. و أحداث ـسعدتها ، وتجارب آلمتها .
عادت الى الصفحة الأولى و أخذت تقرأ بتعمق وروية .. وكيف قررت أن تدون كل ما يمر بها لتعود اليه يوماً ما.
بدأ شريط الذكريات يمر من أمامها بالكثير من الأحداث ، فأغمضت عينيها وأخذت نفساً عميقاً لتعود الى سطورها ، وتشاهد شريط حياتها بتروٍ من جديد .
إستمرت بالقراءة حتى غلبها النوم ، ولم يوقظها إلا صوت خطوات تتجه نحو باب غرفتها .. فأسرعت الى سريرها وأخفت دفترها تحت الغطاء وهي تنظر نحو الباب.
دخلت أمها الى غرفتها لتطمئن عليها ، وطلبت منها أن تنام فقد تأخر الوقت، وعليها أن تستيقظ باكراً لتذهب الى عملها، وتمنت لها ليلة سعيدة ثم غادرت الغرفة .. بعد خروج والدتها بدأت تقرأ بعض يومياتها بدون تركيز
اليوم 24 مايو .. إستيقظ والدي سعيداً .. يحكي لنا مناماً رآه ، وقال لقد ناولني الرئيس قطعة خضراء من العلم الفلسطيني وكانت جميلة لامعة وناعمة.. أمكم ستلد اليوم، وستكون فتاة جميلة وقدومها خير على عائلتنا بأذن الله.
سعدنا بمنام و الدي .. ومع اننا كنا نتمنى صبياً ليكون أخاً ثانياً لنا
25 مايو .. أمي وضعت اليوم فتاة جميلة جداً .. كانت السعادة تملىء بيتنا الصغير
كلنا يتهافت فوق سرير أمي ليرى الضيفة الجديدة .. ما أجملها!!
أختي الصغيرة وُلدت بأربعة اضراس .. غريبة !!
كان شكلها مضحكاً حين تبكي.
تصفحت دفترها .. وقلبت صفحات عدة .. حتى وصلت الى تاريخ متأخر بضعة سنين .. فهي لم تكن تكتب بدفترها بشكل يومي.
وجدت صورة وتحتها تعليق مضحك.. فابتسمت وهي تقرأ .. أول قبلة .. بتاريخ 14 تشرين أول وبجانب الملاحظة رسمت قلب يخترقه سهم وعليه أول حرفان أسمها و أسمه.
و أسفل الصورة هذا التعليق....
قبلة اخترقت عالمي الهادئ وبعثرت جسدي في الفضاء الواسع، ولم أستطع التقاط أنفاسي بعدها.. أو جمع أشلائي المبعثرة .
تنهدت بعمق .. وتنازعتها الأفكار والألام .. وأطبق صدرها النحيل وكأن جبلاً من الهموم هبط فوقه، وعادت بذاكرتها الى الوراء .. والى مشواريهما معاً على شاطئ البحر وأمواجه الرقراقة حيناً والهائجة حيناً آخر .. وتمنت لو تعود بها الأيام لتعيش لحظة حب اخرى .. وتحتضن تلك اللحظة كما لو انها تعرف بأنها لن تتكرر.
ثم تابعت القراءة بعد أن قلبت عدة صفحات لم ترد أن تقرأها
عزيزي أفتش عنك داخل جسدي وبين ثيابي
أفتش بين يومياتي
أفتش عنك في صوت قلبي المتهدج بلحظة شوق
في نبضاتي و أوردتي ..
فهل أجدك ثانية؟
في يوم شتاء بارد ذهبت عني و وعدت بالعودة .. وحتى الأن أنتظر
مرت سنين ولا زلت بعيداً .. غير عابئ بما يصيبني ببعدك عني ..
إحتضنت دفترها وقبلته ودموعها تنساب على وجنتيها فتحرقهما ، فقد لمست جراحاً قديمة لم تشفَ بعد.
وعادت تنظر الى ماضيها بحنين، و حزن عذب .. وبدون حقد على أحد ..
أيقظتها خيوط الشمس التي تسللت الى غرفتها دون استئذان، ودفترها بين ذراعيها وكأنها تحتضن الماضي بذكرياته المرهقة .. نهضت من سريرها وأعادت دفترها الى مكانه في درج المكتب .
أعدت القهوة لها و لوالدتها وجلستا في المطبخ .. أشعلت سيجارة وبدأت تنفث دخانها بالهواء وتحدق في الصور التي تتشكل أمامها وتحاول التقاطها فتتكون صور أخرى ، ولم تنتبه أو تسمع والدتها وهي تحادثها فقد كانت كالغائبة عن الوعي .. عاد صوت أمها أكثر قوة يسألها عما بها .. فأجابت بملل واضح عادي ...
لا جديد .. ولا أراني أختلف عن أي يوم مضى .. ثم نهضت و قبلت أمها و استأذنتها لتستعد للذهاب الى العمل.
خرجت لتبدأ يوماً مألوف الملامح كالذي تعيشه كل يوم .. بلا هدف او معنى؛ لتعود بعده الى غرفتها تعيش مع وحدتها وذكرياتها وبعض أحلام تظن بأنه لا يزال من حقها أن تحلم بها.