أنا عائشة عصمت بنت إسماعيل باشا تيمور بن محمد كاشف تيمور ولدت في القاهرة سنة 1840م لوالدة شركسية الأصل تدعى بـ" ماهتاب هانم". أما والدي فقد كان وكيل دائرة محمد توفيق باشا ولي عهد الخديوية المصرية. توفي عام 1873،وكان عمري 33 عاما، أما والدتي فقد توفيت عام 1868م.
وأنا من عائلة علم، فقد كنت أختاً للمرحوم العلامة المحقق أحمد تيمور باشا، إلا أنه كان من أم أخرى وهي " مهريار هانم " وهي أيضاً شركسية الأصل
تزوجتُ بكاتب ديوان ( همايون ( سابقاً السيد الشريف محمود بك الإسلامبولي ابن السيد عبدالله أفندي الإسلامبولي سنة 1271هـ. وبعد زواجي اقتصرت على المطالعة والإنشاد وتفرغت لأعمال المنزل. وأنجبت بنتين وولد، أسميت الكبرى منهما بـ " توحيدة"، أما ولدي فقد أسميته بـ"محمود بك".
هذا وقد تولى والدي عهدة تعليمي بنفسه؛ لأنه لم يرغب باختلاطي بالرجال فكان يقوم بتدريبي كل ليلة بعد العشاء ساعتين، تارة في كتاب الشاهنامة للفردوسي، وتارة في المثنوي لجلال الدين الرومي، وكلاهما من عيون الأدب الفارسي والتصوف الإسلامي.
كنت عينة خاصة من نساء عصري، عُرفت بالبراعة والعقل والحكمة، ورُزقت من فهم الحياة ومجرياتها الشيء الكثير، وكان للبيئة التي أحاطت بي من كُتّاب وأدباء يغشون مجلس والدي أعظم الأثر في تنشئتي، وتأدبي وحسن بياني وعذوبة شعري.
عُرف عني الدأب والحرص على التعلُّم والتأدب، فأخذت النحو والعروض على "فاطمة الأزهرية" و"ستيتة الطبلاوية"، فبرعت فيهما، وأخذت الصرف واللغة الفارسية على "خليل رجائي"، وأخذت القرآن الكريم والخط والفقه على "إبراهيم قونس"، ثمّ تطلعت إلى مطالعة الكتب الأدبية والدواوين الشعرية، فطالعتها مطالعة هيأت لي ملكة التصورات لمعاني التشبيهات البديعة، حتى جمعت ثلاثة دواوين باللغات الثلاث: العربية والتركية والفارسية.
وكانت والدتي تأبى علي التفرغ للكتابة والقراءة؛ لأنَّ ذلك لم يكن محموداً من بنات ذلك العصر، فكانت تعنفني لتركي التطريز والحياكة وما شاكلها من دروس التربية النسوية، وإقبالي على الكتب والدواوين، وإصغائي إلى نغمات الكُتَّاب الذين كانوا يترنّمون في بعض نواحي القصر أثناء النقل والإملاء.
وكان والدي يقول لوالدتي عندما يرى النقاش قد احتدم بيننا: "دعي هذه الطفيلة للقرطاس والقلم، ودونك شقيقتها فأدبيها بما شئت من الحكم".
وقد أحسنت تربية ابنتيَّ وولدي، وقد أوكلت إلى ابنتي توحيدة مهمات المنزل حتى باتت مدبرته، ولكنها توفيت وهي لم تبلغ بعد من العمر ثمانيةَ عشرَ عاماً، فنزل بي حزن وأسى ثقيلان على فقدانها ، وتركت العلوم والمطالعة، وأمضيت سبعة أعوام متواصلة أرثي ابنتي إلى أن أصاب عينيَّ الرمد، ولم أقلع عن رثاء ابنتي إلاّ بعد محاولات مضنية من الأهل والأولاد استمرت طيلة السنوات السبع، بعدها كانت رياح السلوى تتسرَّب إلى نفسي شيئاً فشيئاً حتى توقفت عن رثاء توحيدة التي ذهبت بجزء من كياني ووجداني!
وقد قسَّم النقاد شعري إلى ستة أقسام:
1. الأخلاقي
2.الديني،
3.الغزلي،
4.الشعر العائلي،
5.شعر المجاملات،
6.الرثاء الذي كان له نصيب الأسد في شعري، ولاسيما في رثاء ابنتي توحيدة ، وقد تميَّز شعري بجلاء الصورة وحيويتها، وعمق الدلالة، ونضج التجربة الشعرية، وممَّا قلته في رثاء توحيدة ، هذا المقطع من قصيدة طويلة:
|
بنتـاه يـا كبـدي ولـوعـة مهجـتـيقــد زال صـفـو شـأنـه التـكـديـرُ |
|
لا تـوص ثكـلـى قــد أذاب وتينـهـاحــزن علـيـك وحـسـرة وزفـيــرُ |
|
وبقبلـتـي ثـغــراً تـقـضّـى نـحـبـهفحرمت طيب شذاه وهـو عطيـرُ |
|
والله لا أسـلـو الـتــلاوة والـدعــامـا غـرّدت فـوق الغصـون طيـورُ |
|
كــلا ولا أنـسـى زفـيــر تـوجـعـيوالقـد منـك لـدى الثـرى مـدثـورُ |
|
إنِّـي ألـفـت الـحـزن حـتـى إنـنـيلـو غـاب عنـي سـاءنـي التأخـيـرُ |
|
قد كنـت لا أرضـى التباعـد برهـةكـيـف التصـبُّـر والـبـعـاد دهـــورُ |
|
أبكـيـك حـتـى نلتـقـي فــي جـنـةبـريــاض خـلــد زيَّنـتـهـا الــحــورُ |
|
مُتعت بالرضوان في خلـد الرضـامـا ازيَّنـت لــك غـرفـة وقـصـورُ |
........................ |
أمـاه قـد عـز اللـقـاء وفــي غــدستريـن نعشـي كالعـروس يسيـر |
|
وسينتهي المسعى إلى اللحد الذيهـو منزلـي ولـه الجـمـوع تصـيـر |
قولـي لـرب اللحـد رفقـاً بابنـتـيجـاءت عروسـاً ساقـهـا التقـديـر |
|
إلى أن أقول:
.......................
انعكست وفاة "توحيدة" على حياتي واهتماماتي، فكنت مهتمة بتربية البنات وحسن تأديبهن وإعدادهن لبيوت أزواجهن، إيماناً مني أنَّ صلاح الأمّة من صلاح المرأة، إن هي فهمت دورها، ورُبيت على هذا الدور، وأتيحت لها فرصة ممارسة دورها التربوي في مناخ يؤهلها لذلك. وقد كتبت في جريدة "الآداب" سنة 1306هـ تحت عنوان "لا تصلح العائلات إلا بتربية البنات" مقالة طويلة في هذا الشأن، نقتطف منها هذا المقطع الذي أطالب فيه ولاة الأمور بالعناية ببناتهن وتعليمهن ليتحصنّ بالمعرفة ضد الجهل! فقلت:
"كيف تحسن الشفقة الوالدية بإساءة المشفق عليه. فلو عني رجالنا ـ معاشر المسلمين ـ بتربية بناتهم، وأجمعوا على تلقينهن العلوم بمقدار شفقتهم لنالت أرفع مجد وأهنأ جد، ولعوَّضت تلك الفتيات عن ذلك القلق براحة العرفان، وأوسعت بسواعد معلوميتهن مضيق السلوك إلى ساحة الإذعان، وقامت بواجبات التدبير وهمَّت بوقاية أساس حليتها من التدمير؛ لأنَّ خراب الدور بعد انقطاع أهلها طبيعي وليس بضار. إنَّما هدم سقف الشرف بصرصر الجهل مع وجود الديار هو العار، بل النار. ومن المستغرب أن يفرِّط الفارس في تمهيد الأصل، ويأسف على اعوجاج الفرع، وهو المودي به!
فلو أروت الرجال غرائسها من قرارة المعرفة والعرفان لاتكأت في ثقل الأحمال على قويم تلك الأفنان، وصعدت بمساعدتهن أعلى الدرج وتمسّكت بأقوى الحجج. ولكن تعالت هيئتنا هذه في التنمُّق عن التهذيب بحجّة أوهى من بيت العنكبوت، وهي أنهن إذا تعلمن الكتابة يعلقن بالهوى ومغازلة السوى بالجوى، وبادرن بالمراسلات. ألم يطرق مسامعهم روايات الأميين وأحاديث الجاهلين؟ فيا رجال أوطاننا وملاّك زمام شأننا، لم تركتموهن سدى، وذهلتم عن مزايا التأمل فيما تفعل اليوم وستلقاه غداً؟ نجلتم عن أن تمدُّوهن بزينة الإنسانية الحقيقية، ورضيتم بتجرُّدهن عن حليها البهية، وهن بين أنامل سطوتكم أطول من قلم، وخضوعهن لسلطتكم أشهر من نار على علم، فعلام ترفعون أكفّ الحيرة عند الحاجة كالضال المعنى، وقد سخرتم بأمرهن وازدريتم باشتراكهن معكم في الأعمال واستحسنتم انفرادكم في كلّ معنى؟ فانظروا عائد اللوم على من يعود؟!
وفي عام (1902م) توفيتُ عن اثنتين وستين سنة، مثّلت خلالها جانباً مهماً من الحياة المصرية في القرن التاسع عشر، وهو جانب من الخدر التركي المصري أو المتمصر ، وقد عرف عني طيلة حياتي التقوى والصلاح.
وبالنسبة لشعري الغزلي، فلم يكن منه إلا من قبيل " تمرين اللسان وذلك بسبب افتقاد روحي للبهجة والسعادة، وحزني على ابنتي طال نصيباً واسعاً من روحي، مما أثر على شعري العربي وأضفى عليه صبغة من الحزن والأسى لا تخفى على القارئ والمتذوق. فكان منه:
كما استرسلت في كتابة الشعر بكل ما أوتيت به من مواهب شعرية، ليس فقط بالعربية والتركية ، بل وبالفارسية أيضاً، فكان منه أنني في ليلة من الليالي كنت جالسة في حديقة قصري أنظر إلى نور القمر وروعة الأزهار، وكنت أمسك في يدي باقة من الورد، وقد كنت أتمعنّها بكل هدوء وسكون وشعر، وإذا بوالدتي تقطع عليَّ ذلك السكون والتأمل، فأذهب إلى والدتي، وعندما عدت رأيت أن باقة ورودي مبعثرة، فقلت قصيدتي بالفارسية وهي:
أيا مهتاب تابنده شكوفه م شد برا كنده ترابخشم خفارتها كدامك كرد بزمرده
جـــــه داغ ! آن داغ جمـــــر آســــــا جــــــــو بينـــــــم دستـــــــــــه آزرده
وقد كانت ترجمة هذه القصيدة كالتالي:
"أيها القمر الباهر إن باقة وردي تشتت، وقد كنت وكلتها إليك، فمن الذي بعثرها وشتتها؟ كلما أرى باقتي مبعثرة هكذا أشعر في نفسي بحسرة شديدة فواحرقتاه".
وكان لي من الشعر أيضا ماً قلته عن زعماء ثورة عرابي بعد نفيهم والتنكيل بهم وكان منه:
كما كان لي أيضاً من الشعر:
كذلك قلت في والدي بعد وفاته:
مؤلفاتـــــي
وبالنظر إلى مؤلفاتي فقد ارتفعت إلى أعلى الرتب، ووردت إليَّ التقاريظ من الأدباء، وجميع ما ورد لي من التقاريظ مكتوب في مؤلفاتي، ومن هذه التقاريظ ما جاء من السيدة وردة اليازجي الذي أبدعت فيه لرقة معانيه على ديوان حلية الطراز وما جاء فيه:
سيدتي ومولاتي:
(إنني قد تشرفت باطلاعي على حلية طرازكم التي تحلى بها جيداً العصر، وأخجلت بسبك معانيها خنساء صخر، ألا وهي الدرة اليتيمة التي لم تأت فحول الشعراء بأحسن منها، وقصر نظم الدر عنها وشنفت بحسن ألفاظها مسامعنا حتى غدا يحسدها السمع والبصر، وسارت في آفاقنا مسير الشمس والقمر، ولقد تطفلت مع اعترافي بالعجز والتقصير بتقريظ لها وجيز حقير، فكنت كمن يشهد للشمس بالضياء أو بالسمو للقيمة الزرقاء راجية من لدنكم قبوله بالإغضاء، ولا زلتم للفضل مناراً يسطع، وبين الأدباء في المقام الأرفع بمن الله وكرمه. )
أما مؤلفاتي فهي كالتالي:
1. نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال:
• • هو كتاب عربي، فيه قصص لتهذيب النفوس، أسلوبه إنشائي وقد تم طبعه سنة 1305هـ - 1888م.
2. مرآة التأمل في الأمور:
وهي رسالة باللغة العربية، تتضمن 16 صفحة في الأدب، وقد تم طبعه قبل سنة 1310هـ - 1893م.
3. حلية الطراز:
وهو ديوان لمجموعة أشعاري العربية، وقد تم طبعه في القاهرة آخرها سنة 1327هـ وأولها قبل عام 1289هـ.
4. شكوفة أو (ديوان عصمت)
هو ديوان أشعاري التركية، وهو يحتوي على بعض الأبيات التي قلتها في ابنتي توحيدة، ومن هذا المنطلق ذهب الناس إلى أن هذا الديوان فارسي وتركي، وهو في الحقيقة غير صحيح لأنني صرحت بأن أشعاري الفارسية كانت عند ابنتي توحيدة، وقد أحرقتها مع ما أحرقت من مخلفاتها الخصوصية، وهذا دليل على أنه ليس لي ديوان فارسي مستقل