مقدمة: سلام عليك يا أخي، قصة واقعية دارت أحداثها في ظاحية من ظواحي طرابلس الغرب عروس البحر وتحديدا مدينة "جنزور"وقد حدث أمر لم يكن في الحسبان غيّر مجرى حياتي كلّيّا ، والقصّة كتبت على مرحلتين فالجزء الأوّل كتبته بحظور البطل نفسه وقد كنت أطلعه على ما أكتب ومازلت أتذكّر بعض نقده وملاحظاته والجزء الثاني كتب بعد المأساة.
----------------
سلام عليك يا أخي
طرابلس مدينة كبيرة كأيّ مدينة تعجّ بالناس و السيارات ، الساعة تشير إلى الثامنة صباحا حين توقّفت سيارة صدّيق أمام المنزل الّذي أسكُنهُ .
- (السلام عليكم،نهاركمْ طيبْ )
- السلام ورحمة الله
(نهارك أسعد ليّام)...
- (كيفْ حالكمْ....)
- بخير والحمد لله.
- ( كيفكْ يا حسنْ)
(لا باسْ) ، الحمد لله.
كانت تحيّة الصّباح المعتادة بيننا وقد حانت ساعة الإنطلاق للعمل ، تحرّكت عجلات السيّارة (البي أم دوبل في ) في الطّريق المليء بالسّيارات وقد كان الزحام شديدا وكلّما توقفت السيارة أضغط على زرّ البلّور لكي ينزل قليلا ولست وحدي من يقوم بذلك إنّما في هذه اللّحظة بالذّات لحظة اختناق الشارع بالزحام ينخفض بلّور السيارات ولا تسمع غير كلمات حفظتها حتّى أصبحت أردّدها بدوري في كل مفترق طرق مزدحم.....
أسرع…يا الله…ماذا دهاك…لماذا توقفت … عفوا … لا بأس…(…) أبله… (…) حمار... غبي …(…)...(…) ربي يهديك... .
وهكذا تسير حركة المرور في مدينة بلا إشارات مرور ، آهْ!.. في المفترقات الحيوية الكبيرة هناك إشارات ضوئية .
كنّا نسير بسرعة كبيرة حتّى توقفنا أخيرا فالضوء أحمر وأمامنا ثلاثون ثانية من الإنتظار، كأنّنا في سباق والكلّ ينتظر ساعة الإنطلاق ...
غن غنننن ، طق طق ، إزززز....
و في تمام الثانية والعشرون أصبح الضوء أخضر لتنطلق السيارات من جديد في الطريق السريعة .
- حسن ، حسن أتودّ شرب قهوة ؟
… إيه حسن ألا تسمعني
يلتفت حسن وقد نزع السمّاعات من أذنيه ليقول لي
- نعم .. مذا قلت !
فيجيب صدّيق
- ( تِبّي قهوة)
فيجيب حسن
- نعم
توقّف صدّيق أمام مقهى المصريّين فنزلت واقتنيت ثلاثة أكواب من القهوة وانطلقنا حتّى وصلنا إلى منعرج به مسلك ترابيّ وأصبح صدّيق يقود ببطئ في طريق محفوفة بأشجار البرتقال واللّيمون وقد اكتست الأرض بساطا أخضر خلّاب يسرّ الناظر إليه ، المكان هادئ جدًّا بعيد عن ضوضاء الطريق وصراخ السّائقين .
توقفت السيارة أمام (فيلّا) لم يكتمل بناؤها بعد ونزلت أنا وحسن كعادة كلّ يوم عمل .
الساعة الآن التاسعة إلاّ خمس دقائق ، على الموعد بالضبط استقبلنا صاحب المنزل ببشاشة وهو يقول..
- ( الحمد لله عالسلامة يا باش مهندس)
تفظل البيت بيتك..
- شكرًا
- هذا كلّ ما طلبت من بضاعة.
- ( كويِّسْ كلْ شيْ تمامْ )
والتفتُّ إلى صدّيق قائلا " سَلامْتَكْ " دِيرْ بالكْ على حالكْ"
موْعدْنا العشيةْ بإذن الله.
شيّعني صدّيق بابتسامته المعهودة وهو يلوح لي بيَدهِ حتّى غاب في الطّريق الترابيّ .
- حسن ..
- نعم
- ساعدني في نقل البضاعة إلى مكان العمل
- صاحب المنزل - من الفتى أهو مصريْ ؟
-لا هو أخي ..
-( يا راجل .. قصدي هو مصري ولّا تونسي)
-( لا يا عم هو خُويا شقيقي..)
- ( إيهْ الله يباركْ … ربي يخليكم لبعض.
يساعدني حسن في كلّ شيئ أقوم به حتّى أصبحتُ أعتمد عليه وقد أصبح يدير العمل بنفسه دون مساعدتي، سحبنا أسلاك الكهرباء وثبّتناها في أماكنها حسب الخريطة بالضّبط ومازلنا نعملُ حتّى أتى صاحب المنزل بصينيّة شاي ودعى حسن قائلا..
- ( تفظلْ ولْدي وعَدّي للأُسْطى كاسْ شايْ خلّيهْ يزَبِّطْ الشّغلْ. )
- ( تِكرمْ يا عمِّي الله يخليكْ
- بالشفاء والهناء .
هكذا كان عملي إنارة الضّلمة وإضافة الحياة إلى الجماد وقد كنت أحبه وأحببت ما أنا عليه وتغمرني سعادة كبيرة حين أنتهي من اللّمسات الأخيرة وأنير الغرف الواحدة تلو الأخرى ، الآن وُلِدَ على يديّا بيت جديد له عنوان على هذه الأرض ولكلّ غرفة من غرفه إسم وهكذا أضفتُ للعالم شيء من صنع يدي … وأنتهي من ذلك لأبدء من جديد.
صاحب الفيلّا..
- (ما شاءَ الله عَلِيكُم تَمّيتُوا)
- الحمد لله كلّ شيء على ما يرام
-( الله يبارك فيكمْ)
- الله يخليك .
يوم الجمعة إجازة وقد رتّب حسن مع أصدقائه موعدا للذهاب إلى البحر ، حان موعد صلاة الظهر وقد رتّبنا أغراضنا لتلك النزهة وقد اجتمع الشباب وقد كانوا فرحين وكان أكثرهم فرحاً حسن أخي
فهذه أول مرّة سيقوم فيها بنزهة في القرية السياحية على شاطىء بحر "جنزور" .
كنّا خمسة أو أكثر من ذلك حين ذهبنا إلى المسجد لصلاة الجمعة ، أتذكّر ما كان يقوله الإمام حينها ،كان كلاما حول السلاح والأرض والوطن والأخوة وكان بين الحين والحين يردّد ( لا يؤمن أحدكم حتى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه ) ...
خرجنا من المسجد مطمئنين وقفلنا راجعين إلى الحيّ و في الطريق كان أخي حسن يتكلّم بصوت عالٍ بعض الشيء لم أعهده فيه ، كان سعيدا للغاية كنتُ أخاله يقفز وهو يعبّر عن فرحته بيننا، كان بعض الحديث عَنْ ما قاله الإمام وأغلبه كان على النزهة المرتقبة ، اجتمعنا أمام منزلنا استعدادا للذهاب لكنّ عصام أحد أصدقاء أخي قال سأستشير أبي في الذهاب قبل أن أرافقكم ، وبعد حين أتى وقد بدا على وجهه بعض التذمّر وقال
- أبي يحتاجني في عمل لا بأس سأذهب معكم في مرّة اخرى.
كان عصام فتى جيد وكان جارنا تمنّيتُ لو ذهب معنا لكن لا بأس.
حانت ساعة الإنطلاق ، أوقفنا ( تاكسي) وقد أصبحنا أربعة أنا وأخي وإثنين من أصدقائه .
كان الربيع قد أوشك على الإنتهاء ،الجو غامض ...كأنّه الصّيف لكن حين جلست كنت أشعر بالبرد ....
نسيم البحر شهيّ يأسرني العمق هناك ...هناك توجد مدينة اخرى كهذه أو جزيرة أو أيّ شيء.
تأمّلت البحر وأنا جالس على الصخر ، كان الدّفتر مفتوحا لكنّي لم أكتب شيء تلاشت الفكر في حضرة الموج الهادر والزبد الأبيض ، رذاذ الماء يصل إلى قدميّا الحافيتين وينقط نقاط عشوائية على وجهي راسما دموعا كثيرة فرفعت يدي ومسحت بها تلك الدموع في لحظة سكون رهيبة...
كان عمري عشر سنوات حين جاء إلى الدنيا ،عشر سنوات في كلّ سنة تزيد من عمري كان يكبر حتّى أصبح فتى في العاشرة وقد أصبحت في العشرين ، عشرون سنة كفيلة بأن تعلّمك كلّ شيء.
كنت قريبا منه جدّا أحسست بما كان يشعر به حينها وعرفت الأمنيات التي يريد تحقيقها فقد كنت في سنّه ومازلت أتذكّرُ ما كنت أريده ولم أحققه، أعطيته كلّ ما كان ينقصني ولقنته ما كنت أجهله.
كان يكبر في كلّ سنة تزيد من عمري ومرّت عشر سنوات اخرى سريعة كالشباب إذ يمرّ بالإنسان.
قاسية هي الحياة في ظلّ حلمٍ تريد تحقيقه .. قاسية هي الحياة مثل الشتاء الذي سافرت فيه إلى ليبيا.
في ذلك اليوم على شاطئ البحر هناك كان يبتسم للكاميرا مع اثنين من أصدقائه و كانت آخر ابتسامة له في الحياة ، تركني جالس على الصخر هناك وذهب ، كان الموج يناديه وكانت المنيّة تنتظره....سلام عليك يا أخي.. سلام عليك يا حسن.. لم تودّعني حتّى...
لكنّي أودّعك الآن.
آخر تعديل إبراهيم الدوف يوم 01-28-2014 في 02:35 PM.