يا موت
أنا وأنت
وأنفاسي بهالدنية
معدودة
الكفن حن
والألم ضج
جسر ومنه عبرنا
طوفان ومَــدّ
يَمّ وهَمّ
كل موجة تندرج
أعمالنا تضم
ياموت
خليك حنون
وبكل هدوء
ضم هالروح
أراك ترسِمُ شِعراً با عبد الجبار، فهل ما نمر به ألهمك هــذه الكلمات، ثم لِما اخترت الموت، لتحكي عنه؟
والله يارجب الموت هو الذي سوف يختارُني لا أنا، أشعر بِهّمٍ وكدر، وحِملٌ ثقيلٌ فوق صدري، ولا أدري كيف انسابت هذه الكمات مني إنها وليدةُ اللحظة، لم أعد أرى مُبرراً لحياتــــي
صور الجُثث أمامي على الدوام، قليلة هي الليالي التي لا أرى
فيها صور جُثثٌ أو دماء!
غيّب الموت والد رؤى بهدوء رحل، كما تمناه وسط أحداثٍ مُتصاعدة الوتيرة! كان الجيش على تخوم المدينة، والحواجز مُنتشرة مابين شارع وحارة، ليقتصر مجلِس العـزاء على مَن يُتيح له الحاجز الحضور بأمن وسلام!!
بقيت رؤى صديقة نافِذتها، وبقيت عزة والعم رجب يترددان على زيارتها.
ـ لم يكن الموت بالفاجعة، فنحن نعيش مواسـم المـوت والكوارث، أن تمشي وأنت مُستعِدٌ لأن تفقد أحد أعضائك!
أو رُبما حطموا لك جُمجُمة رأسك، مشاهــدٌ صارت مألوفــة عبد الجبار تُوفي وفاة غير اعتياديــة، لقـد نال الراحــة بهدوءٍ وطمأنينيـة! كان جالِسٌ يُنظِـمُ رثائيـةً له فمــات، رؤى أراك قويـة يــا ابنتـي، تذكــرتُ لحظـــة وفـاة والــِدة عـــزة كانـت لحظات قاسية للغاية، بكينا وبكت جُدران منزلنا الذي جمعنــا برغــد العيش ومــرارة المرض، والتسليــم لقضــاء الله. كان رجب يُخاطِبُ رؤى وقد فاضت عينيه دمعاً. ثُمَّ حضنها وبـدأ
فيض الخاطر يتفجـر آلامـاً من قلبيهمـا، كانت مِحنـةُ الوطـن كافية لأَن يستغرق الجميع في بُكاءٍ مرير!!
كان الطاقم الطِبي في المِنطقةَ الشمالية مُنشغِلاً جِــــداً أثناء تواجد بعضٍ من الإعلاميين حين وقعت عيني د. حُسام على حسناءٍ يعرِفُها، كانت ناتاشا وابراهيموف، تفاجأت هي الآخرى به، لم يكُن د.حُسام يعلمُ بعد بعمل زوجته !
حاول تجاهلها وزميلها، لينشغل بمُداواة حالةٍ كانت أمامهً.
فهِم ابراهيموف نظرات د. حُسام، فانسحب دون استئذانٍ.
عادت ناتاشا إلى المنزلِ غاضِبةً، لِتُفاجأ بابنها محمد يبكي دونما أن تعلم السبب، تقدمت الجّـدة مُنى مُتمالكِـةً نفســها
ـ إنه مريض يا ناتاشا.
ـ كان عليّ إحضار كاتي معي، كانت ترعاه في كافة شؤونه، ربما تحتاج لطبيب يا صغيري..
ـ لا يا ناتاشا، إنه يحتاجك! مرات زارته عزة وجلست معه، أخبرتني بأنه يفتقِدُ أبويه، كما أنكما مُنذُ قدومكما لم تصطحِباه معكما.
ـ لدينا عمل ياجدة، حُسام مشغولٌ جِداً
11-
ـ عليك أن تذهب لترتاح ياد. حُسام، أنت مُنهكٌ جِداً. قال الدكتور شاهين
ـ أجل أشعر بِصُداع يا د. شاهين، هل تعرف طريقاً أمناً
يُوصِلني بأمان للمنزل؟!
ـ أجل يا دكتور.
قدَمت سيارةُ إسعاف، ليستقِلها د. حُسام على عجلة، فربما احتاجها الطاقم الطِبي.
كان السائق حذِراً جِداً، كما أنه لم يعتمِد السُرعة في القيادة
ـ على ما يبدو خبيرٌ في حركة شوارع المدينة ومُنعطفاتِها يا ...
ـ (عبد) اسمي عبد يا دكتور
أنا أعملُ سائق إسعافٍ أعوامٌ عشرة، اضطرت لترك دراستي وإعالة عائلتي التي فقدت والدي إثر حادثة سير.
نظر حُسام مُتأثِراً، كانت عيونه تطلب الغفران من مدينته التي ابتعد عنها، اِستردَ ذكريات الطفولةِ والصِبا، وبعفويةٍ راح يبحث عن أول وردة حمراء وقعت في يده تِذكاراً مِنها تِلك التي أخفى اسمها، فأطلق عليها اسماً خاصاً ( نجمة)
أجل نجمة!
تربعت نجمة قلبه لسنواتٍ، اليوم وسط المعارِك الدائرة، ومُصادفته لناتاشا وابراهيموف زميلها، استيقظت نجمة في خياله وقلبه!
12-
سهِرت ناتاشا إلى جانب محــمد، حيثُ شعرت طفولتــه ببعض من أمان، كان يستفسر عن (المدينة الغامضة) التي تعيش مابين عواصف صاخبة وعواطف لاهبة، وعن غياب الطفولة فيها!! وعن سِرِ غياب والده المُتكرر، الذي لن يـره أحداً بعد اليوم، فقد تعرضت سيارة الإسعاف لهجوم ارهابي راح ضحيته الدكتور حًسام والسائق وكافة وسائل الإمـــداد الطبية التي كان عليـه إيصالهــا صباح الغــد إلى المُستشفى الميداني!
لم تستسلم مُنى لِنبأ وفاة ابنها وأصرت على مشاهدته توجهت وزُملاءه إلى المُستشفى حيث جُثمان الفقيد، كان جُثةً مُتفحِمة، قرؤوا الفاتِحة، وسط ذهول وارتباك، لقد استسلمت الأم المفجوعة للصمت، تسمرت دونما حِراك، هل حقاً هذا حُسام!! وراح شريطُ ذكرياتها وابنها يُستعرض في خيالها تبكيه لحظة وتبتسمُ له لحظةً آُخرى!!
خرج جُثمانيّ شهيدا الواجب الدكتور حُسام والسائق عبد
من المُستشفى العسـكري، كان في وداعهمـا أفراد الطاقـم الطبي، سار الموكب بطيئاً ليتثنى لِحُسام وداع مدينتـه التي عاد ليحتضن ألمها، فكانت أكبر في فهم أبنائها، تغمد التُراب حسام وقد غفـت في عينيــه نجمــة !! اقتــرب محمد ابــنه مُتخطياً طفولتــه ومُتخطياجِـراح اليُتم قبّـل والده، وفي عينيه دمعٌ أبى السقوط.
-13-
غادر ابراهيموف إلى وطنه، بعد تقديم واجِب العزاء لزميلته ناتاشا ولابنها محمد، حامِلاً في حقائبه صوراً أليمة
تناولتها الصُحف العالمية، وتقاريرٌ كانت ناتاشا قد دونتهــا
المسألة أصبحت لناتاشا أكبر من هوس صحفي، إنها مسألة وجودٍ أيضاً، ناتاشا تبحثُ عن قاتلي حُسام، ومحمد يبحُث عن
قاتلي الطفولة، اغتالوا سلام الإبتسام، وسرقوا دميةً كان يلهو بها ريثمـا يعود والده ليحضنـه، يطبعُ قُبلةً أعلى جبينـه، ثُـم
يعِدُه بِنُزهةٍ إن شاركه الطعـام، وابتعـد عـن المُشاغبـة، كبـُرَ محمد كثيراً، لم تعـد لعبتـه رشاشاً مائيـاً أو دبابـةً بلاستيكيــة
صارت الأسلحة بالستية وعنقودية، وصارت الطفولة قصص اسطوريـة ! يبحثـون عن البـراءة فـي عيـون الصغـار عبـر الانترنت بِكُل دهشة وانبهار ولِسانُ حالهم يقول (والله زمان)
غادرت السُفن الروسية بحر قزوين، باتجــاه ميــاه البحـر المتوسط ، لِتشعر ناتاشا بتبدد مشاعر الغُربة، أحست بِالنــدم راحت تبكي غياب حُسام، كانت تود أن يعود لِيُقنعها بملازمة المنزل كما كان يفعل في كل مرة، ترصد فيها حدثاً!!
تبدد بعض حُـزن الدكتـور شاهيـن، ليُعـاود نشاطـه فـي المُشافي الميدانية، بإصرارٍ مُضاعف، رافقته صورة حسـام على الدوام، كان كُلمـا خلا إلى نفسـه يسترجـع أحاديثــــه القصيرة معه، كان حُسـام تجسيداً للوطنية وللإنسانيـة بِكُـلِ
صورها.. جاءه صوت ممرضةٍ حسناء
ـ دكتور شاهين حالة طارئة.
ـ قادم
وقفت إلى جانبه لتمد يدها بوسائل التضمـيد، شارحة لــه ظـروف الإصابـة التي فقـد على أثرها الطفـل مروان إحــدى عينيه، ليحولها إلى مستشفى المدينة ، أما الإصابــة الثانيـة كانت طفيفة الشظية لم تتمكن من اقتناص فريستها، استـدار الطفل في اللحظة التي مرت بهـا من جانـب ساعـده الأيمــن تسببت ببعض الجروح.
مرت الساعات والطاقم الطبي يعملُ تحت وابل القذائف وأمام إصاباتٍ مُختلفة، رُبما تمتعوا بدقائق راحة ليزورهــم
طيف زميلهم حُسام! قصف جديد لنتهيأ لاستقبال جرحى، يا
.؟؟؟
ـ عزة، اسمي عزة ـ يا دكتور شاهين!
-14-
.
مرت الأيام والأسابيـع وتلتها الشهـور، لم تنس رؤى نافذتها الوردية، التي ابتعدت عنها لظروف عملها أيضـاً في
استقبال إصابات الطفولة، وتمريض الجراح المُلتهبة، إنهــا تسترجع بعض ذكريات طفولتها، كانت مُفرطـة في حنانهــا تجـاه الأطفال، صارت لمـن طعنـه الغـدر بسهـام اليُتــم( الأم والأخت،) ولمن أدماه قناصُ حِقدٍ (الراعية والمُمرضة.)
لم يكن خافياً على الجدة مُنى سر غياب حُسام عن المنزل
تذكرُ عندما أنهى دراسته أراد الإلتحـاق بالكليــة العسكريــة لكنها بدهاء الأمومة أقنعته تغييـر اختيـاره، أخمـدت غضـب الرجولة لفترة، لكنها عادت لتورق فيه، حسام لم يكن ليعــود لولا الأحوال الضبابية في وطنـه، حسام عاد ليــُرد الأمانــه
فاضت عينيّ مُنى بدمعةٍ مسحها حفيدها محمد، جدته لم تعــد تقو على الكلام، لقد نسيت الأبجدية منذ رحيل حُسام، كلما مر شهاب قذيفة، أو دوىّ انفجارٌ، رفعت يديها إلى السماء بدعـاءٍ
يُفهمُ مِنه أنها تُريد الإلتحاق بحسام..
ـ
عشرات القتلى والجرحى على طول خطوط المحاور القِتالية.
كان لِسان حال رجب يُردد! لدى دخول ابنته عزة إلى المنزل
ـ مساء الخير يا أبي
ـ مساء النور ابنتي، خير أراك قد تأخرت بالمجيء هذا اليوم
ـ كان عليَّ إنهاءُ بعض الأعمال يا أبي.
دخلت المطبخ لتستكمل حديثها بينما تُعِدُ الشاي وبعضاً من المعجنات، وضعتها فوق المائدة مُستكملة حديثها
ـ هل ترانا أخطأنا بالعودة يا أبي
ـ لا أعلم ياابنتي! لا أعلم
رن جرس المنزل، كانت رؤى هي زائر المساء الإعتيادي فبعد وفاة والِدها، شعرت بقربها من العم رجب، تبوح له بمكنوناتها الخاصة، يُحضن دمعها، رؤى كانت ضحية ظروف اجتماعية، كان خلفها عقلية إجرامية، دبرت موضوع سفرها عن طريق الزواج، ليعتمد على شكلها مُتناسياُ خُلقها
انتهز طيبة أبيها، وشيطنة اُمها، ليُبعِدهاعن وطنها، لقد شاهدت أمها بِرفقته مِراراً، وفي كل مرة كانت تنكر، وتتهم رؤى بالجنون، مرت الأيام وانفصل والدها عبد الجبار عن أُمها التي كانت تنمو في داخِلها حيل الدهاء والمكر والخديعة
ـ عبد الجبار كان يعلم أن وراء هذا الخداع شخصٌ بألف قِناع لاذ بالصمت قوةً لا ضُعفاً، واستغنى عن اُمها التي حملت سالم ابنها سِفاحاً، لتستمر لعنتها بملاحقة ابنها التي حالت دون إتمام تعليمها، واستقرارها.
عادت إلى وطنها، بفؤاد جريح، وعهدٍ صريح على أن لا تُغادِر موطنها ثانيةً، لكنها تعبت المواجهات والمُشاحنات!
تعِبت أمواج الغضب المستعر، وأصوات الشارع المُلتهب
تعبت مُلاحقات أُمها، ولعناتها، تعبت الخيانة وكل ما حولها.
لم تكن عزة أفضل حالاً من رؤى، عادت إلى وطنها والشوق بين ضلوعها لا يُغالبُ، لكنها اعترفت بأن بقاءها نزولاً عِند رغبة والدها الذي أبى الزواج لأجلِها..