.
ج- نعم، فأنا أدرك أهمية مشاغل الوظيفة وثقل متطلبات الحياة، ولكن هذا لا يعفيهم من مهمة القراءة، وخصوصا النقاد، وإلا، أيعقل أن يدعي ناقد أنه لا يجد الوقت للقراءة.
س- لاحظت أنك تحدثت عن الإنتشار أولا، فهل هذا يعني إنك مهتم بالإنتشار أكثر من القراءة؟
ج- لا شك أن الانتشار يهم الكاتب كثيرا، ولكني لا استطيع أن أفضله على القراءة، فالقراءة لكاتب مثلي مهمة جدا، لأنها هي التي تحقق مشروعي الروائي، أما الإنتشار فيبقى طموح شخصي آمل أن أحققه يوما.
س- فما رأيك بإشكالية المصطلح النقدي العربي، إذا؟
ج- قبل أن نتحدث عن الإشكالية، يجب علينا أن نتحدث عن المصطلح نفسه، فالموجود هو مصطلح نقدي غربي، معرب، وهذا غير العربي بكل تأكيد، فنتاج العقل الغربي هو غربي ولن نجعله عربيا بمجرد التعريب، ولذلك أرى أن لا وجود لنقد عربي ما لم يكن نتاجا لعقل عربي، وأنا هنا لا أدعو إلى مقاطعة الفكر الغربي، فالأفكار الإنسانية تتلاقح وتنتج دوما أفكارا جديدة، ولكن لايكتفي بتبني أفكار العقل الآخر! كما أني لا أدعي بأن الأدب العربي لم يكن له وجود يوما ما، بل كان موجودا وكان هو الأدب الأصلي الذي تستنخ منه الآداب الأخرى، والنقد جزء من الأدب . أما الآن وبعد أن أعلن النقد في العالم العربي عبوديته للنقد الغربي، وفقد شخصيته المتميزة، فإننا لن نجافي الحقيقة إذا ما قلنا أن لا وجود لنقد عربي وبالتالي فاننا لن نستطيع أن ندعي مصطلحا له، فترديد مقولات لرولان بارت أو غيره، مثلا، لا يعتبر نقدا خاصا بأي حال من الأحوال. وإسمح لي هنا أن أؤكد أن إلتزام الرؤى الغربية في النقد سيؤدي حتما إلى إغتراب الرواية عن مجتمعاتنا التي يفترض بها أن تخدمها، أو على الأقل أن تضمن تفاعلها معها، وأنا وبكل أمانة أتصور أن دالاس مارتن مثلا، أو أدوين موير أو دريدا لا يستطيعون أبدا أن يعلموني كيفية التصدي للظواهر في مجتمعي وأن استقي منها ما يمكن أن يروى، كما أنهم وبكل تأكيد لن يساعدوني في محاولة إرضاء ذائقة القاريء العراقي.
س- آسف للمقاطعة، ولكني أريد أن تذكر لي أول رواية أجنبية تخطر ببالك، وكنت قد قرأتها وأعجبتك؟
ج- مائة عام من العزلة.
س- حسنا، ماذا لو استطعت يوما أن تكتب رواية شبيهة بها؟
ج- يبدو لي يا عمر أن هذا سؤال مراوغ، ومع ذلك سأجيب. حسب رؤيتي الحالية للأمور، أتصور أني لن أحقق بهذا شيئا، سأكون مجرد مقلد، فأين أنا؟! وعلى كل حال، فكلانا يعرف أن ذلك ليس ممكنا، ليس لأني لا أستطيع أن أنافس ماركيز فقط، بل لأنه نفسه لو عاش هنا في مكاني، لما إستطاع أن يكتبها.
أما عن الإشكالية، فأقول نعم هي موجودة، ولكن بشكل إفتراضي فقط، لأننا إذا ما أنكرنا وجود الأصل فلن نستطيع أن نثبت وجود إشكالية فيه، إلا إفتراضا. والآن أرجوك حاول أن تفسر لي ما معنى مصطلحات مثل (الصيرورة التنصيصية) و(تمفصلات سيروية) و (تقاطب ملفوظي) وغيرها الكثير مما يستخدم في مقالات يدعي كاتبوها إنها (نقدية) تنشر يوميا في الصفحات الثقافية، لكي أستطيع أن أفهمها أولا، وبعدها نتناقش.
س- هل لديك طقوسا خاصة بالكتابة؟ ومن أو ما هو حافزك على الكتابة؟
ج- لا طقوس محددة عندي الآن، فما أن تتهيأ ظروف الكتابة، وتتوفر أدواتها، حتى أباشر بها وبغض النظر عن الطريقة التي سأكتب بها، فالكتابة هي طقس بحد ذاته لا يحتاج إلى أكثر من شرط واحد، وهو الهدوء، ولكن حتى هذا الشرط ليس ملزما دائما، فأنا نظريا استطيع أن أكتب إذا ما تملكتني الرغبة حتى في حال وجود الآخرين من حولي، وقد كتبت أحدى قصص مجموعتي (كواليس القيامة) وأنا جالس في مأتم، الا أن هذا لا يحدث كثيرا. ولكي أكون أكثر دقة في الإجابة أقول، كنت أمتلك في بداية إدماني الكتابة، ثلاثين قلم رصاص ومبراة. كنت عندما أقرر أن أكتب، أضع الأقلام الثلاثين أمامي وأبدأ ببريها تباعا حتى أكملها جميعا، ثم ابدأ بالكتابة بها، مبعدا كل قلم يفقد لياقته بعد بضعة أسطر، مستبدلا إياه بآخر، ولكن هذا الطقس اللذيذ إنقرض مع دخول الكومبيوتر.
أما الحافز، فلا حافز شخصي عندي غير الحافز الرئيسي الذي دفعني إلى الكتابة أصلا، محاولة التميز، فقد كنت دوما من النوع الكسول وغير العملي في حياتي، فكان منجزي الشخصي يكاد لا يتناسب مع إمكانياتي الحقيقية، وعندما إنتبهت، كان قطار العمر يكاد يتجاوز محطات إمكانية التعويض، ولذلك كان قراري أن أحاول ما قضيت معظم عمري أفكر به، من دون أن اقدم، أما اليوم وبعد تنامي الخبرة وتفتح أبواب الفرص أمامي، فأعتقد أن الحوافز قد تعددت، ولكن يبقى الباعث الأكبر على ممارسة فعل الكتابة، هو الحافز الرئيسي الذي تحدثت عنه.
س- كتبت الرواية والقصة القصيرة وقصص للأطفال.. هل هناك نية لكتابة المسرحية؟
ج- أنا أعتذر أيها الصديق لأني لم أطلعك على تجاربي في مجال كتابة السيناريو، فقد كلفت بكتابة سيناريو لفلم تسجيلي، نفذته بطريقة أرضت الجهة المكلفة، وكذلك كتبت سيناريو لحلقات مسلسل أذيع في حينه في إحدى الإذاعات العراقية، وكذلك كتبت سيناريو لقصة لمجلة أطفال، ولكن كل ذلك كان ضمن المرحلة التجريبية التي يمر بها كل مبتديء، أما اليوم، فقد إخترت طريقا، وإرتضيته لنفسي وأحاول جاهدا أن أستحق لقب (روائي) الذي ينعم به علي الأصدقاء تكرما، ولكني أشعر بأني لم أزل في بداية مشروعي الروائي ولا أجد في نفسي الرغبة اليوم في خوض المزيد من التجارب، ولكن كانت لي تجربة خجولة جدا مع المسرح حيث ضمنت مجموعتي (كواليس القيامة) محاولتين لم تكن في حقيقتها أكثر من قصتين ممسرحتين، أما المسرح الحقيقي فأنا لا أجد في نفسي الجرأة لإقتحام ميدانه.
س- نجد الكثير من المصطلحات المبتكرة والمعقدة بنفس الوقت في رواياتك، أما ترى أن ذلك نوع من التوعير الإصطلاحي؟
ج- المصطلح عموما، هو ما أتفق عليه من كلمات تعبر عن حقيقة أو حالة محددة سواء كانت أدبية أو علمية، وما أبتكره أنا في رواياتي إنما هو تلاعبات لفظية لا علاقة لها بالمصلحات وإن طرحت لتبدو كذلك، وأؤكد لك بأني لن أقدم طلب إثبات براءة إختراع لنفسي حتى لو حدثت المعجزة واستخدم واحد من مبتكراتي كمصطلح بشكل رسمي. أنا أستخدم تلك المصطلحات المفترضة للسخرية بالدرجة الأولى، ولكني في روايتي الأخيرة أجهدت نفسي كثيرا في محاولة إستحداث تلاعبات لفظية باستخدام مصطلحات حقيقية ودمجها ببعض لكي أعطي القاريء إنطباعا بأن ما يقرأ عنه، هو المستقبل البعيد، أما لماذا، فدعني أبين لك.. أنت مثلا، لا تستطيع أن تفسر لي معنى كلمة (تتراسايكلين) أو (ساماسايكلين) مثلا، ولا يستطيع ذلك معظم الناس، ولكننا نعرف جميعا أنها تعني نوع من دواء يستخدم في علاج الالتهابات، اي أن الجهل بمعنى المصطلح لم يمنعنا من فهم دلالته وهذا ما أطلق أنا عليه (المفهوم الدلالي) وما فعلته في روايتي الأخيرة يدخل ضمن هذا الإطار، فدلالة تلك المصطلحات، ورغم صعوبتها، موجودة ضمن النص التي تذكر فيه. أما لماذا حرصت على عدم ترجمتها إلى العربية، أو أن أكتبها بالأحرف اللاتينية، فلكي استفيد منها في تأكيد فكرة (الثقافة السائدة). أما عن التوعير، فأنا لا أحب الوعورة، ولا أريد أن (أوعر)، بل إن غاية الأدب عندي، هو السهل الممتنع، ولكن ما العمل عندما أجد نفسي مضطرا إما للإستطراد في السرد حتى أثير جزع القاريء فأجعله فريسة للملل، أو أن أركز الألفاظ لكي أستطيع أن أوصل إليه أقصى قدر مما أريد قوله، بكلمات معدودات.
س- هل للبيئة أو الطفولة تأثير على منجزك الإبداعي؟
ج- بدءا، شكرا جزيلا لوصفك منجزي، بالابداعي، ولكن عذرا، فأنا أعتقد أن هذا غير محسوم بعد، أما عن البيئة والطفولة، فبكل تأكيد، نعم، كان لهما تأثير كبير على ما أنجزته لحد الآن، فقد ولدت وترعرعت في عقود ولم يكن غريبا فيها أن يجتمع الأطفال ليتداولوا المجلات والقصص، وفي ظروف كهذه لم يكن مستغربا من طفل خجول وهاديء، أن يفضل القراءة على العاب الأطفال فقد كنت أفرح كطفل، أن تنتاب الحمى جسدي، لأن هذا يعني أني سأغيب عن المدرسة، وهذا يعني أني سأستحوذ بذلك على كل الكتب والمجلات الموجودة في البيت من دون منافسة اخوتي الكبار الذين كانوا يستحوذون على الجديد، ليقرأه، حتى يؤول إلي، بعد طول انتظار.
س- للفنان حالات وجد صوفية مع ذاته لا يعرب عنها، بل يترك للمتلقي تفسيرها.. هل ينطبق ذلك مع بعض فصول رواياتك؟
ج- أعتقد أنك لو لم تكن فنانا لما سألتني مثل هذا السؤال، وأنا على يقين من أنك تنتظر مني الجواب بالايجاب، ولكني سأقول... نعم، وهل يمكنني غير أن اقول، نعم هذه، فبهذا الوجد المعبر عنه، تكمن متعة الكتابة والتي من دونها لن يتورط في الكتابة إلا مجنون.. هذا الوجد هو الشيفرة السرية المبثوثة في صفحات النص لإصطياد شبيهي الكاتب، وينبه صنوان روحه إلى أن ما يعانوه ويتصوروه جنونهم الخاص، إنما هو قاسم مشترك لمجموعة من بشر، وتواصل ينبيء برقي وروحانية عارمة يمكن أن تحولهم من أشخاص عاديين إلى ناس يشعرون بقيمة أنفسهم، ويقدرونها حق قدرها، وتلك واحدة من مهمات الأدب الحقيقي.
س- ما رأيك بالنقد الحالي الذي وجه إليك، هل هو بمستوى النقد أم انه محض إنطباعات؟
ج- لم يكن ما كتب عني أكثر من مجرد إنطباعات أو عروض حتى في أحسن حالاته، وأنا هنا لا أريد أن أدعي ما ليس بي، فأنا لست حتى بناقد، فكيف انقد النقد، ولكني أعبر عن وجهة نظري فقط وأترك أمر تقييم ما كتب عني للنقاد أنفسهم.
س- شاهدنا فيلما تقريريا بأسلوب مسرحي تجريبي لمخرج وممثلين أمريكان عن بعض قصص مجموعتك (كواليس القيامة) هلا حدثتنا عن ذلك؟
ج- هذه تجربة اعتبرها مثمرة جدا بالنسبة لي، فقد خضتها وأنا مزمع على أن أقدم شيئا ما لبلدي المحتل، وأتصور أني قد تمكنت من ذلك إلى درجة ما. فقد علمت في عام 2004 أن وكاتبا مسرحيا أمريكيا هو السيد (جورج لاركن) قد أعلن مشروعا للكتاب العراقيين على موقعه الألكتروني. كان يبحث عن نصوص تتحدث عن وجهات نظر العراقيين فيما حدث خلال حرب الاحتلال، على أن يجمع منها مادة لمسرحية تقدم على المسارح الأمريكية ليطلع الجمهور الأمريكي على وجهة النظر الأخرى. والغريب أن إستجابة المثقفين العراقيين كانت ضعيفة جدا. المهم هو أن السيد لاركن إرتأى في النهاية أن تكون المراسلات الألكترونية التي حصلت بيننا وبينه هي مادة المسرحية المقترحة، بعد إضافة بعض القصص التي أرسلتها إليه، وبالفعل فقد قام ممثلون بقراءة تلك القصص على المسرح أكثر من مرة كجزء من عملية العرض لإستقطاب منتجين يساهمون في تحويل المقترح إلى مسرحية، ولكن ردود الفعل التي واجهها لاركن كانت قاسية إلى درجة أن البعض قد شكك بوطنيته، فقد ضاقت الديمقراطية الأمريكية بمحاولة عرض بسيطة لرأي لا تريد أن تسمعه! ولكنه بادر بعد ذلك إلى دعوة أصدقائه من الممثلين لمساعدته في تحويل مشروع المسرحية إلى فيلم تسجيلي يتحدث عن الاتصالات التي حدثت بيننا في محاولة منه لجذب أنظار المنتجين السينمائيين هذه المرة عسى أن يكون هذا مشروعا لفيلم سينمائي، وبالفعل فقد استجابت مجموعة من الممثلين وكان له ما أراد، فأخرج الفيلم التسجيلي الذي يحمـل عنوان (Speaking of Baghdad) وقد عرض الفيلم أكثر من مرة على شاشة قناة تلفزيون ( (Linkالأمريكية، كما شارك مؤخرا في مؤتمر أدب وفن الحرب للقوة الجوية الأمريكية وقد لاقى استقبالا رائعا، ومن المؤمل أن يشارك في مهرجانات أخرى في أمريكا وكندا، كما أن قصة (ديك سامي) من مجموعتي (كواليس القيامة) والتي كانت جزءا من الفيلم قد أختيرت لتشارك في مهرجــان Starz-.(Denver Film Festival)
س- أقرأ لك أحيانا نصوصا تقترب إلى منطقة الشعر.. هل جربت كتابة الشعر؟
ج- أن اقترب من منطقة الشعر هو أقصى مدى يمكن أن أصله، فأنا أتصوره أكبر من إمكانياتي، وحتى هذا الإقتراب لم أكن لأتمكن منه لولا أن حقول الكتابة المختلفة تمتلك مناطق متداخلة يمكن للجميع أن يلجوها، فالشاعر الحقيقي هو الأجدر دوما باستخراج الرؤى والصور الشعرية من حقول الكلمات، والروائي الحقيقي هو المسؤول عن الأفكار الكبرى التي يتمكن من تحويلها إلى نص روائي، ويبقى القاص هو المكلف باقتناص اللحظات المناسبة التي يرى فيها مشاريعا لقصص مكتوبة بطريقة فنية وجميلة، وهكذا.
س- اطلعت على مخطوطة لمجموعة قصص للأطفال.. هل تحدثنا عن هذه التجربة؟
ج- أنا لن أتوانى لحد هذه اللحظة عن تخصيص وقت لقراءة اية مجلة تعود إلى مرحلة طفولتي إذا ما أسعدني الحظ ووجدتها أمامي. أما عن تلك التجربة، فقد دفعني الظرف الإقتصادي في حينها إلى محاولة استثمار ما توهمته من إمكانيات في هذا المجال، ماديا، ولكن الخطأ الذي إرتكبته حتى قبل أن أبدأ، هو أني دخلت ميدان الأعمال، بروح هاوي! ولم يكن الأخير، فأنا لن أسامح نفسي يوما لأني سمحت لصاحبة العمل أن تضطرني إلى تغيير أمر ما في قصة لي، رغم أن ذلك التغيير لم يكن ليؤثر على القصة من ناحية فنية، ولكن الخطأ كان في المبدأ. المهم هو أني قد حاولت ولكن النتيجة كانت لا تغني عن جوع، ومع ذلك، كنت مسرورا لأني كنت مستجيبا لرغبتي في مخاطبة الطفل التي لازمتني منذ أن غادرت مرحلة طفولتي مشبعا بالقصص التي قرأتها، والمجموعة التي إطلعت عليها كانت نتاجا لتلك التجربة. ولكن حال ثقافة الأطفال في بلدنا لا تسر ابدا، ولا أستطيع الآن فعل شيء بعد أن تورطت في عالم الرواية، ومع ذلك، تبقى فكرة أن اتمكن يوما من كتابة قصة أطفال متميزة، حلما يلازمني.
س- لكنك أشرت قبل قليل إلى أن تعدد المحاولات في حقول مختلفة ليس في صالح العملية الأدبية؟
ج- كلا، فتعدد المحاولات هو غير التوصيف، فالكاتب في بداياته يجب أن يجرب، وأن يحاول في أكثر من حقل حتى يجد نفسه في أحدها ويحدد شخصيته الأدبية المتميزة، أما بعد ذلك، فأنا أرى ان توصيف المرء لنفسه بأنه روائي وقاص وشاعر! ليس في صالح العملية الأدبية أبداً.
س- من هم أبرز الروائيين الذين قرأت لهم.. وأين تكمن خصوصيتهم؟
ج- أنا لا أعتمد بقراءاتي على الأسماء كثيرا، فأنا قاريء عشوائي، وكل كتاب يقع في يدي، يعتبر صالحا للقراءة حتى تثبت القراءة نفسها بطلان ذلك، ولكن هذا لم يمنع من أن يكون عندي كتاب مفضلين، وأولهم ومن دون منازع، دوستويسفسكي، وذلك لتمكنه من الغوص في أعماق النفس البشرية وإبراز نماذج في رواياته لم نزل نلتقي أمثالها رغم مرور الزمن وإختلاف المجتمعات. ولكن دعني أوضح لك أمرا، فأنا كنت بالحقيقة أود أن يكون نجيب المحفوظ هو كاتبي المفضل، لأنه هو الذي يمثل المصداقية لطروحاتي التي أؤمن بها، فمحفوظ هو الأقرب إلي منطقيا لأنه ينتمي إلى مجتمع عربي، وبأصالة تحسب له، وتكاد همومه تشابه همومي لولا أن الشعب المصري الشقيق يعتبر واحدا من أكثر الشعوب إختلافا عن شعبنا العراقي من ناحية البناء النفسي، ولذلك لم أستطع إلا أن أنحاز إلى دوستويسفسكي الذي كانت بدايات تفتحي الفكري، على قلمه.
يمكنني أن اذكر لك نموذجا آخر وهو الروائية التشيلية، إيزابيل الليندي، التي تمثل كتاباتها بالنسبة لي، السهل الممتنع الذي أطمح إليه. ولا يفوتني أن أذكر ماركيز بواقعيته السحرية وأسلوبه الجميل والأخاذ، أما غير هؤلاء، فبوسعي أن اذكر لك روايات كثيرة أعجبتني، ولكني لا استطيع أن اعتبر نفسي قد تفاعلت مع نتاجاتهم على العموم.
س- ما عيوبك في كتابة الرواية؟
ج- أنا يا عمر، لو كنت أعرف عيوبي بالضبط لبادرت إلى معالجتها على الفور، بدلا عن ذكرها لك لتفضحني أمام القراء! أنا لا اقول أن لا عيوب عندي، ولكن هذه مهمة النقاد، ولكنهم حتى إذا ما إنبروا ونقدوا، فإني سأظل أعاني من إختلافات جوهرية في وجهات النظر معهم، فأنا مثلا لا أرى في المباشرة أحيانا، وأؤكد هنا على (أحيانا) هذه، عيبا، ولكن يبدو أن البعض يعتبرها من المحرمات! لا أدري فأنا لم أقرأ نصا في (قانون الكتابات الروائي!) يحرم ذلك. حسنا لأطرح الأمر بهذا الشكل، ماذا لو كان عندي ما اقوله لك، بإعترافك أنت كقاريء، ولكني لا استطيع أن أوصل إليك الفكرة كاملة بالأسلوب الفني الذي ترتضيه النزعة الجمالية؟ ايجب علي أن أتوقف عن محاولة إيصال الفكرة لهذا السبب، أم أوصلها إليك ناقصة لأني لم استطع أن اصوغ بعض أجزائها كما تشتهيها أنت. أنا أعرف أن هذا قد لا يعتبر لصالح نصي من ناحية فنية، ولكن هذا هو ما أستطيعه الآن، أنا لن أتردد في تفضيل الفكرة على الجانب الجمالي إذا ما تقاطعا عندي، فمثل هذا قد يصح في الشعر، أو حتى في القصة القصيرة، اما الرواية، فلا وألف لا.
س- افهم من هذا إنك تعتمد الوظيفة، أما الجمال فهو تحصيل حاصل؟
ج- أنا لم اقل يوما أني روائي عظيم، ولكني لست من المنتمين إلى نادي (النزعة الجمالية) ولذلك لا يصح تطبيق قواعده علي. أنا أرى أن الأدب الملتزم والهادف هو الذي تحتاجه مجتمعاتنا المبتلاة بأنفسها وظروفها القاسية، وإذا ما أراد ناقد أن يحاسبني، فليحاسبني وفق أسس هذا الأدب. أنا أرى الرواية كالبيت الكبير الذي أبنيه بنفسي، فبعدما أوفر في داخله ضروريات الحياة التي قد يحتاجها سكانه، يصبح من حقي أن اضيف إليه ما اشاء ما دام ذلك لن ينقص من قيمته بالنسبة إليهم.
على كل حال، أنا أشعر بأني لم أزل في بداية طريقي لأن مشروعي الروائي ذو طموح كبير، وكل ما كتبته لحد الآن يكاد لا يقترب من ذلك الطموح، ولا يهمني إن كانت الرواية في العالم قد وصلت إلى درجة كبيرة من النضج لأن ما أحتاج إليه بالفعل، هو خبرة شخصية لن تتراكم إلا بممارستي أنا لكتابة الرواية.
س- لم اتخذت القدس لتكون عاصمة للدولة العربية الكبيرة في رواية الدومينو؟
ج- أستطيع ان أؤلف لك كتابا صغيرا، جوابا على هذا السؤال، ولكن إختصارا أقول، أنا أتصور أن المكان الأمثل لعواصم البلاد هو قلبها، ومن ناحية جغرافية كان الخيار لعاصمة دولة واحدة تمتد من المحيط إلى الخليج هو إما القاهرة أو القدس، وقد إخترت القدس طبعا لأنها رمز كبير لا عند العرب فقط، بل للعالم أجمع، ثم ألا ترى معي أن المفارقة في إدعاء مدينة محتلة، عاصمة لدولة مفترضة، ستكون اشد إيلاما للعرب، وأكثر قدرة على التأنيب، وهو ما أبتغيه ضمنا في هذه الرواية.
س- أهم شهادة قيلت بحقك لحد اليوم؟
ج- هي شهادة صديق تعرفه جيدا أسمه عمر مصلح، اسمعني إياها ولكنه لم يدونها أو يحاول نشرها! يبدو أن حظي مع الأصدقاء سيء
س- هل نتحدث عن رواية ( يا حادي العيس ) أم نؤجل ذلك , لحين قراءتها من قبل النقاد والمتابعين ؟.
ج- أفضل ذلك .. وشكراً