وحينما تألف عينى الظلمة ويتسع مداها، ويخيل إلىّ أن الأرض سكنت روحى واستولت عليها كأنها عشيقة محبوبة، عندئذ أتمنى لو استطعت أن أصف كل هذه التصورات، وأخط على صفحة الورق كل هذه المشاعر التى تعيش وتتزاحم فى داخلى، لتكون هذه الصورة مرآة روحى، كما صارت روحى مرآة الإله اللامتناهى!
فى تلك الأيام كانت كل هنيهة لها شعورها المحبوب المتجدد البهيج: إذا انفتح الباب للقاء فذلك شعور القائد الذى يفتح باب حصنه ليتلقى نجدة الأمان والاطمئنان إلى زمن طويل وليطرد المخاوف من وراء ذلك الباب إلى مهرب سحيق، وإذا انفتح الباب للوداع فذلك شعور الشارب الذى استوفى نصيبه من العقار وبقى له نصيبه من النشوة والتذكار ونصيبه من الشوق فى الغد إلى مثل هذا اللقاء ومثل هذا الوداع ومثل هذا الانتظار، وبين لقاء كل يوم ووداعه ألف لقاء ووداع وألف انتقال من حال إلى حال، وألف سكنة وألف ابتدار.
أليس من الألم أن يحب الإنسان لحياة واحدة؟ ألم تشعر بطعم الحب الخالد؟ أتدرك الآن ما أشكال الافتتان التى تسمو مخلوقة إليها عندما تكون ثنائية فى حب من لا يخون الحب أبدا، من نجثو أمامه متعبّدين.
فأدركت أنه مهما يكن من علم الإنسان أو أخلاقه فلا غنى له عن الوعى الثقافى المتضمن طبعا الوعى السياسى.. وأنه مهما يكن من تفوقه وبراعته وفائدته فلن يعتصر من ذاته إمكاناتها الإنسانية حتى ينظر إلى نفسه لا باعتباره جوهرا فردا مستقلا، ولكن باعتباره خلية لا تتحقق لها الحياة إلا بوجودها التعاونى فى جسد البشرية الحى.
إن نهر الحياة نفسه الذى ينساب فى عروقى ليل نهار.. هو الذى ينساب فى الكون، ويرقص على إيقاع موزون.. إن شباب الأرض والماء يسمو فى قلبى كأنه بخور المجامر.. ولهاث الوجود كله يتردد ضمن أفكارى، كما يتردد فى ثقوب الناى.
المسافة بين العين ومرمى البصر ليست المسافة الوحيدة للرؤية، وليست كذلك المسافة الأكثر طولا أو بهجة.. العاشقون مثلا، والمغتربون، والمحزونون، وكل الذين نأت بهم الدار عن الدار، هؤلاء جميعا لا يرون بعيونهم فحسب، بل بقلوبهم أيضا.. القلب هو الذى يتلفت إلى الأشياء منذ تغيب الأشياء، وحين يتلفت القلب تتبدى له التهاويل صورا مجسدة على لوحة الفضاء، وتتداعى الرؤى التى ناداها ببوح الشوق، وتنبعث الذكريات مدفوعة بالحنين الذى لا يقاوم.
السنوات تمضى، ريحها ما بين الفصول تطرح الوجوه بالدرب.. مصادفات تحمل الحكايا الصغيرة.. الرعشات المؤقتة، الاحلام البريئة التى تواريها دفاتر الذكريات المنسية فى الأركان الصامتة.. وجهه وحده لم يذب من ذكرياتى، ظل يناوشنى بين وقت وآخر فأخترع الأسباب لألتقيه وأهدى لكفى منه تلك اللمسة التى تفجر ضياء يشع فى مساحة قلبى، وسؤال حائر يتقافز: هل تراه يحس بمشاعرى؟ هل تسرى رعشة كفى إليه تنبئه أن التى تسعى إليه إنما تأتى مدفوعة بذلك الشعور الجميل والحلم الأجمل؟
كل يوم يمنحنا الله بجانب الشمس، لحظة يمكننا بها تغيير أى شىء يسبب لنا التعاسة، وهذه اللحظة السحرية هى لحظة يمكن لكلمة "نعم" وكلمة "لا" بها تغيير وجودنا كله.. وكل يوم ندّعى أننا لا نرى هذه اللحظة، وأنها غير موجودة، وأن اليوم يشبه الأمس تماما، وأن الغد سيكون مثلهما.. لكن، أى شخص ينتبه ليومه سيكتشف هذه اللحظة السحرية.. هذه اللحظة موجودة، لحظة تتدفق بها كل قوة النجوم خلالنا، وتسمح لنا أن نفعل المعجزات.
بعد طول انتظارى لعل وعسى، بعد هيهات، قررت الخوض فى بحر البداية، لم أخش الغرق، ولم أرهب البلل، أبحرت وطال إبحارى، لقطع المسافات.. فى البحر زمن يخالف زمن البر، فكيف الحال فى التجليات، حيث تتجاوز وتتضفر البدايات والنهايات