وقفتْ تـُزيحُ عنِ الجَمالِ نِقابا = وتـُشيرُ لي بيَدٍ فجـِئْتُ شِهابا
همسَتْ إليَّ بأحْرُفٍ مَسْحورةٍ = مِنْ صوتِها رقَّ الفؤادُ وذابا
يا نغمةً قدسيةً بمسامعي = نثرَتْ على قلبي الجريحِ رضابا
سألتْ عن الأحوالِ قلتُ لها اصبري = ما زلتُ من سَهْمِ الغرام مُصابا
أمسيتُ أرجو أنْ يطولَ حديثُنا = لتصبَّ ليْ خللَ الحديثِ شرابا
رقَّتْ و رقَّ ليْ السماعَ كأنني = أضحيتُ مِنْ بعد المَشيبِ شبابا
كلماتُها نغمٌ تهزُّ بها دميْ = و سؤالُها يُبقي مُنايَ عِذابا
ما زلتُ أقنعُ بالحديثِ وأرتوي = لأظلَّ في أفُقِ الغرامِ سحابا
فإذا بها أضحَتْ تـُعيدُ خِمارَها = لِتزيدَني فوقَ العذابِ عَذابا
مجنونة بالحبِّ َوَدَّ صريعُها = لو أنها فتحَتْ لهُ الأبوابا
تسقي من الهمْسِ الجميلِ مُدامةً = و تصُدُّ لو رامَ الحبيبُ جنابا
قمة شعرية غاية في الروعة والجمال
غزلية وجدانية ثرية بالصور الملونة بألوان المشاعر والاحساس
تتماهى بعذوبتها ورقتها روح القاريء حد الإنصهار
بوركت شاعرنا الكبير الأستاذ عبد الرسول معلة وبورك نبضك
ودمت متوهجاً بالإبداع والتألق
جميلٌ أن تنال هذه الإطلالة المقتضبة ذائقتك ، وهذا يدفعني لتقديم القراءة كاملة ، قراءة من قارئ ما زال في محراب نصك
فإن أصابني التوفيق في القراءة فهذا الفضل من الله تعالى ، وإن أخطأت..فمنّي ومن الشيطان ...لكنني أكون قد نلتُ شرف
التجربة في قراءة القصيدة الرائعة ...
أشكر حرفك الجميل وإطراءك النقي النابع عن صدر إنسان شاعر ...
قبل الولوج في هذه القصيدة والتي تُشكّل ُ بحق ، قصيدة جميلة بما حوت من مفرداتٍ وصور غاية في الجمال ، وذات حرفية عالية في الإنتقاء ، والمتأمل في هذه القصيدة سيجد شاعرنا لم يعمد لرصف الكلمات رصفا، بل جاءت متناغمة ، متناسقة كباقة ورد جمعها فنان مُلهَم .
إذاً قبل الولوج في القصيدة ومحاولة تقديم قراءة واعية ، نتوقفُ عند العنوان ( حديث مع ذات خمار ) ، لماذا لم يَقُل ( حوار ) ،
لأنَّ الحديث غالبا يكون المتحدث له مجال أوسع في الكلام من الشخص الذي يكون طرفاً في الحوار ، وهنا ما أردنا أن نصل إليه ، أن الشاعر في حديثه ، كان يتحدث من خلال عدة نوافذ ، منها اللسان ــ وهو الكلام الذي نقله لنا في حديثه مع سيدة النص ــ ، وهناك حديث غير مكتوب ولكنه محسوس من مشاعر متدفقة حاول أن يعبّرَ عنه في غير موضع من القصيدة ، ومنها
نافذة أوسع لم يعبّر عنها ، ولكنه ترك لنا إستنباطها ، وهي الحالة المتمثلة في أحلامه وخياله والذي بإمكان القارئ الفطن أن يتلمسَ ذلك من أبيات القصيدة ....لذلك نرى أنَّ شاعرنا قد أصاب كبدَ التوفيق حين إختار مفردة ( حديث ) بدلاً من مفردة ( حوار ) ، وهذا مما يجعل القارئ يتوقف ويتأمل النص ، ليستخرج جمالياته وروعته .
نأتي لمطلع القصيدة :
وَقَفت تُزيحُ عن الجمالِ نقابا ....وتُشيرُ لي بيَدٍ فجئتُ شهابا
هنا نلاحظ توليفة جميلة من توظيف الفعل الماضي والمضارع ، أنظر للبيت : ( وقفتْ ، فجئتُ ) ( تُزيحُ ، وتُشير ) ...
هنا في هذا البيت لا يخفى على المتلقي ما به من براعة إستهلال ، وهذا البيت وإن كان قد جاءَ في مطلع القصيدة إلا أننا نرى أنَّ البيت جاء إستكمالا لمشاهد لم يشأ الشاعر أن ينقلها لنا ، ربما لأن تلك المَشاهد لم تُحرّك في وجدانه ما حركتُه في وُقوفها وما تَبِع هذا الوقوف ، فمثلاً سيرُها قبل الوقوف ، وقوامها في المشي وغير ذلك لم ينقله الشاعر ، لأنَّ ذلك يدلُّ على عفّة نفس أصيله عند العربي ... نتذكر شاعرنا العربي القائل :
وأغضُّ طرفي ما بدتْ لي جارَتي ...حتى يواري جارتي مآواها
إذا شاعرنا لم يكن من جُلاس الطرق ، الذين يرصدون من تروح وتجئ ...لكنَّ هذا الوقوف وما تبعه من إزاحة النقاب ، فعل ما فعلَ بالشاعر ، وحرَّكَ من كوامن العشق ولواعجه ما حرَّك ..وهنا جاءت كلمة ( تُزيح ) ويظهر في الإزاحة قصد التَّعمُّد لتُريه ما رأى ...
وهنا نجد هذه الحسناء قد لبست النقاب لتخفي تحته ما يسلب اللب ، لذلك جاء التعبير عمّا شاهده بالجمال ، وهنا نتذكر قول المتنبي :
لبسنَ الوشيَ لا مُتجملاتٍ ...ولكن كي يصنَّ به الجمالا
وضَفّرنَ الجدائل لا لحُسنٍ .... ولكنْ خِفنَ في الشعر الضلالا
فلو أزاحت هذه الحسناء النقاب ، ولم يورد الشاعر لنا مفردة ( الجمال ) لكانَ أمرا طبيعيا ، يخرج من دائرة الشاعرية التي نقلها لنا بروعة ورقة .
ثم نتوقف عند المفردة ( وتُشير ) ، فهذه المفردة تحمل في معانيها لغة عميقة واسعة الدلالات ، والإشارة قد تكون بالعين أو إصبع اليد ،أو حتى اليد ، أو الإيحاء وما غير ذلك ...ولله درّ المتنبي حين قال :
أشاروا بتسليمٍ فجدنا بأدمع ......الخ
وهنا الشاعر وبحرفية عالية ، لا يترك هذه المفردة على المُطْلَق ، بل قام بتفسير معنى الإشاره حين قال : ( بيدٍ ) ...
وكأنّي به لم يُصدّق حين رآها وقد أزاحت النقاب فرآى من جمال ساكن خلف النقاب ، ودلالة دهشته قوله بعد مفردة ( وتُشير ) ، قال : لي ... نعم هو لم يصدّق أنه هو لا غيره المقصود ...ويسوقُ لنا دلالة أخرى لدهشته ، بقوله مُلبياً إشارتها له
( فجئتُ شهابا ) ....
ويتكرر تساؤلنا لماذا إستخدم شاعرنا عبد الرسول مفردة ( شهابا ) ، قد يقول قائل هي كلمة أراد من خلالها رسم حدود القافية ، وبناء القصيدة على قافية الباء ...هنا نردُّ على من يتبنى هذا القول أنَّ هذا قول سطحي بعيد عن القراءة المتعمقة للنص والغور في سبره ...ذلك أننا نعلم أنَّ النقاب لونه أسود ، ونجزم أنَّ شعر هذه الحسناء كان أسوداً ولم تكن شقراء ، لأنَّ الشهاب يظهر جليّا للمشاهد في الليل ، وهنا إجتمعَ في الحسناء ظلام النقاب وظلام الشعر ، فكانَ لا بُدَّ لشاعر مطبوع كشاعرنا أن يستخدم مفردة شهاب ، ليكتمل المشهد الجميل الذي رسمه شاعر فنان أجادَ الرسمَ بالكلمات ...
وهنا نَخلصُ في هذا البيت ، أنَّ هذه الحسناء كانت تمرُّ في طريق ، فرأت الشاعر ، فتوقفت ، وأزاحت نقابها وأشارت له ، وكانَ لهذه الإشارة وَقْعٌ في نفسه .
ثمَّ يستمرُ الشاعر في تصوير المشهد ، وهنا إستخدم في التصوير أدواته الجميله ، فقدَّم اللغة ، والمشاعر والأحاسيس التي بدت متراكضة في القصيدة ، متنامية مع كل بيت من أبياتها ... أنظر للبيت الثاني :
همست : هنا نجدُ الشاعر يتفننُ في إستخدام المفردات ، والهمس هو لغة خافتة لا يسمعها سوى المقصود بها ، وكأنَّ الشاعر أراد أن يوصلنا لحقيقة مفادها ، أن كلامها كان له وحده ...وهو ما زالَ تحت وطأة عدم التصديق بذلك ، بدلالة قوله
( إلي ) ...وهذه كلمة معترضة ، فلو قال : همست بأحرف مسحورة ...لكان أمرا طبيعيا ــ مع الأخذ بعين الإعتبار الوزن ــ ، ولكنه ساقَ لنا ( إلي ) زيادةً في التعبير عن دهشته في توجيه كل قصدها في إزاحة النقاب والإشارة له بيده والهمس له ...
وهنا يُقدّم الشاعر لنا تبريرا للحالة التي وقعَ فيها ، عندما يقول لنا : أن الحروف التي همست بها ليست كأي حروف يستخدمها الناس ، بل إنَّ لهذه الحروف سحراً خاصّاً ، كيف لا وقد انبعثت هذه الحروف من صوتها ، وكان لهذه الحروف نتائج أصابت قلبَ الشاعر ، فباتَ رقيقا بعدما كان قاسياً ، وأصبح ذائباً بعدما كان صلباً ...
وهنا كما كنا قد أسلفنا ...نلاحظُ في البيتين السالف بيانهما ، أنَّ الشاعرَ قد قدَّمَ لنا صورة متكاملة ، حين قدَّمَ الصورة على الصوت ، وهي حقيقة كونية ، فالبرق يسبق الرعد ، فجاء البيت الأول ( مطلع القصيدة ) ينقل وصفَ الصورة ، بينما جاء البيت الثاني يرصد الصوت ( همست .....الخ ) . وجاء البيت الثالث تفسيرا للبيت الثاني ...
يا نغْمَةً قدسيةً بمسامعي .....نثرت على قلبي الجريح رضابا
وهنا الشاعر ، يؤكدُّ في هذا البيت ما حصلَ معه في البيت الثاني ....فتلك الحروف المسحورة المنبعثة من صوتها والتي رقَّ لها الفؤادُ وذابا ، هي حروف مُقدّسة ، لا ينطقُ بها أي إنسان ، بل وكأنَّ حروفها لها خصوصية في وجدانه ، وكان لحروفها نتائج
طالت قلبه الذي أصيب بسهام الجمال البادية خلف النقاب ، وسهام الحروف الصادرة من صوتها والتي لها أثر السحر في نفسه .
هنا نتوقف ونتساءل : أمام أيّ قامة شعرية نقف !! وما هي روافد ثقافة رجل إسمه عبد الرسول ... وأيّ قلب يحمل بين جوانحه !! ليُقدّمَ لنا هذه الخريدة البديعة ، والتي بحق ، لو وضعها في ديوان أي فحل من فحول الشعر العربي ما استطعنا تمييزها ، ولو نسبها لنابغة من نوابغ العربية لأختلط الأمر علينا ...
من هنا من حقّنا أن نتيه ونزهو بشاعر بين ظهرانينا ، شاعر وإن جاء في عصر متأخر ، إلا أنه ينتمي لجيل العمالقة ... شاعر لسان حاله يقول :
وإنّي وإن كنتُ الأخير زمانه ....لآتٍ بما لم تستطعه الأوائل
الأستاذ عبد الرسول ...القارئ الكريم ..أعتذر على الإطناب و الإسهاب ، كنتُ أودُّ أن أقدَّم قراءتي المتواضعة للقصيدة كاملة ، ولكني خشيت من مللٍ أبعثه في النفوس ...فرأيتُ الإختصار ....
وهذا الجُهد هو محاولة خجولة للإقتراب من قلم ٍباسقٍ شامخ شموخ نخيل العراق ، أتمنى أن أكون قد إقتربت .
أترك هذه القراءة المقتضبة أمامكم ..وأطفئ القنديل بصمتٍ وهدوء وأنسحب .
قمة شعرية غاية في الروعة والجمال
غزلية وجدانية ثرية بالصور الملونة بألوان المشاعر والاحساس
تتماهى بعذوبتها ورقتها روح القاريء حد الإنصهار
بوركت شاعرنا الكبير الأستاذ عبد الرسول معلة وبورك نبضك
ودمت متوهجاً بالإبداع والتألق
كم يفرحني قربك وتجوالك بين حروفي المتواضعة
أعتز بك قارئا ناقدا كما أعتزّ بك أخاً شاعراً رائعا