يقول تعالى لرسوله محمد صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم: وإذا قرأت يا محمد على هؤلاء المشركين القرآن جعلنا بينك وبينهم حجابا مستورا، قال قتادة وابن زيد: هو الأكنة على قلوبهم، كما قال تعالى: { وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب}[1]: أي مانع حائل أن يصل إلينا مما تقول شيء وقوله: { حجابا مستورا} بمعنى ساتر، وقيل مستوراً عن الأبصار فلا تراه، وهو مع ذلك حجاب بينهم وبين الهدى.
عن أسماء بنت أبي بكر رضي اللّه تعالى عنها قالت: لما نزلت { تبت يدا أبي لهب} جاءت العوراء أم جميل، ولها ولولة وفي يدها فهر، وهي تقول: مذمماً أبينا، ودينه قلينا، وأمره عصينا.
ورسول اللّه صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم جالس وأبو بكر إلى جنبه، فقال أبو بكر رضي اللّه عنه: لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك، فقال: (إنها لن تراني)، وقرأ قرآناً اعتصم به منها: { وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجابا مستورا}، قال: فجاءت حتى قامت على أبي بكر، فلم تر النبي صلى اللّه عليه وآله وصحبه وسلم، فقالت يا أبا بكر: بلغني أن صاحبك هجاني، فقال أبو بكر: لا ورب هذا البيت، ما هجاك، قال فانصرفت وهي تقول: لقد علمت قريش أني بنت سيدها[2].
وقوله: { وجعلنا على قلوبهم أكنة} وهي جمع كنان: الذي يغشى القلب { أن يفقهوه}: أي لئلا يفهموا القرآن { وفي آذانهم وقرا} وهو الثقل الذي يمنعهم من سماع القرآن سماعاً ينفعهم ويهتدون به.
وقوله تعالى: { وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده} أي إذا وحدت اللّه في تلاوتك وقلت: لا إله إلا اللّه { ولوا} أي أدبروا راجعين { على أدبارهم نفورا}، كما قال تعالى: { وإذا ذكر اللّه وحده اشمأزت قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة}[3] الآية، قال قتادة: إن المسلمين لما قالوا: لا إله إلا اللّه، أنكر ذلك المشركون وكبرت عليهم فضاقها إبليس وجنوده، فأبى اللّه إلا أن يمضيها ويعليها وينصرها ويظهرها على من ناوأها، إنها كلمة من خاصم بها فلج، ومن قاتل بها نصر، إنما يعرفها أهل هذه الجزيرة من المسلمين التي يقطعها الراكب في ليال قلائل، ويسير الدهر في فئام من الناس لا يعرفونها ولا يقرون بها.
وقال الشعراوي رحمه الله معنى { أَكِنَّةً } جمع كِنَان، وهو الغطاء، وقد حكى القرآن اعترافهم بهذه الأكنة وهذه الحجب التي غلَّفَتْ قلوبهم في قوله تعالى: { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا فِيۤ أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ.. } [فصلت: 5]
الكون كله خَلْق الله، والإنسان سيد هذا الكون، وخليفة الله فيه وهو مربوب للخالق سبحانه لا يخرج عن مربوبيته لربه، حتى وإنْ كان كافراً لا يزال يتقلّب في عطاء الربوبية، فلا يُحرم منها الكافر بكفره ولا عاص بمعصيته، بل كما قال تعالى: { كُلاًّ نُّمِدُّ هَـٰؤُلاۤءِ وَهَـٰؤُلاۤءِ مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ.. } [الإسراء: 20]
وسبق أنْ فرَّقنا بين عطاء الربوبية المتمثّل في كل نِعَم الحياة وبين عطاء الألوهية، وهو التكليف الذي يقتضي عبداً ومعبوداً، وافعل ولا تفعل.
إذن: عطاء الربوبية عام للجميع ودائم للجميع، فكان على الإنسان أن يقف مع نفسه وقفة تأمُّل في هذه النعم التي تُسَاق إليه دون سَعْي منه أو مجهود، هذه الشمس وهذه الأرض وهذا الهواء، هل له قدرة عليها؟ هل تعمل له بأمره، إنها أوليات النعم التي أجراها الله تعالى من أجله، وسخّرها بقدرته من أجله، ألا تدعوه هذه النعم إلى الإيمان بالمنعم سبحانه وتعالى؟
وسبق أنْ ضربنا مثلاً للاستدلال على الخالق سبحانه بما أودعه في الكون من ظواهر وآيات بالرجل الذي انقطعت به السُّبُل في صحراء، حتى أوشك على الهلاك، وفجأة رأى مائدة عليها ما يشتهي من الطعام والشراب، ألاَ تثير في نفسه تساؤلاً عن مصدرها قبل أن تمتدَّ إليها يده؟
وكذلك الكافر الذي يتقلَّب في نِعَم لا تُعَدُّ ولا تُحصَى، وقد طرأ على الكون فوجده مُعدّاً لاستقباله مُهَيئاً لمعيشته، فكان عليه أنْ يُجري عملية الاستدلال هذه، ويأخذ من النعمة دليلاً على المنعِم.
والحق تبارك وتعالى لا يمنع عطاء ربوبيته عَمَّنْ كفر، بل إن الكافر حين يتمكَّن الكفر منه ويُغلق عليه قلبه يساعده الله على ما يريد، ويزيده مما يحب، كما قال تعالى: { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً.. } [البقرة: 10]
إذن: فقوله تعالى: { وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً.. } [الإسراء: 46] لم تَأْتِ من الله ابتداءً، بل لما أحبُّوا هم الكفر، وقالوا عن أنفسهم: قلوبنا في أكنة، فأجابهم الله إلى ما أرادوا وختم على قلوبهم ليزدادوا كفراً، وطالما أنهم يحبونه فَلْنُزدهم منه.
ثم يقول تعالى: { أَن يَفْقَهُوهُ.. } [الإسراء: 46]
أي: كراهية أنْ يفقهوه؛ لأن الله تعالى لا يريد منهم أن يفهموا القرآن رَغْماً عنهم، بل برضاهم وعن طيب خاطر منهم بالإقناع وبالحجة، فالله لا يريد منا قوالبَ تخضع، بل يريد قلوباً تخشع، وإلا لو أرادنا قوالبَ لما استطاع أحد منا أنْ يشذَّ عن أمره، أو يمنع نفسه من الله تعالى، فالجميع خاضع لأمره وتحت مشيئته.وفي سورة الشعراء يقول الحق تبارك وتعالى: { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ * إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [الشعراء: 3-4]
فالأعناق هي الخاضعة وليست القلوب؛ لأنك تستطيع أن تقهر قالب خصمك فتجبره على فعل أو قول، لكنك لا تستطيع أبداً أن تجبر قلبه وتكرهه على حبك، إذن: فالله تعالى يريد القلوب، يريدها طائعة محبة مختارة، أما هؤلاء فقد اختاروا الأكِنّة على قلوبهم، وأحبُّوها وانشرحت صدورهم بالكفر، فزادهم الله منه.
ثم يقول تعالى: { وَفِيۤ آذَانِهِمْ وَقْراً.. } [الإسراء: 46]
{ وَقْراً } أي: صَمم، والمراد أنهم لا يستمعون سماعاً مفيداً؛ لأنه ما فائدة السمع؟ واللغة وسيلة بين متكلم ومخاطب، ومن خلالها تنتقل الأفكار والخواطر لتحقيق غاية، فإذا كان يستمع بدون فائدة فلا جدوى من سمعه وكأنه به صَمماً.
لماذا ولو على أدبارهم نفوراً؟ لأنك أتيتَ لهم بما يُخوِّفهم ويُزعجهم، وبالله لو أن قضيةَ الإيمان ليست فطرية موجودة في الذات وفي ذرّات التكوين، أكان هؤلاء يخافون من ذكر الله؟ فَمِمّا يخافون وهم لا يؤمنون بالله، ولا يعترفون بوجوده تعالى؟
إذن: ما هذا الخوف منهم إلا لانقهار الطبع، وانقهار الفطرة التي يعتريها غفلة، فإذا بهم يُولُّون مدبرين في خَوْفٍ ونُفور.
ثم يقول الحق سبحانه: { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَىٰ... }.
[1]فصلت 5 [2]أخرجه الحافظ أبو يعلى الموصلي عن أسماء بنت أبي بكر [3]الزمر 45