أثناء طفولتي الأولى كانت الشخصية التي أستلهم منها القوة و أحوم في فلكها هي والدي ، لكنَّ المحبة و الحنان كانا يجذبانني دوماً إلى أمي ، الهادئة الوادعة الرقيقة .
كانت هي الملاذ الآمن الوحيد حين يغضب والدي أو ينفعل ، أتمرغ في أحضانها ، فألقى دفئاً عجيباً ينسيني ما عداه .
عشت آنئذ و قوتان تتنازعانني ، قوة القسوة و القوة في والدي ، و قوة العطف و الحنان في والدتي ، و لأنني في هذا الشتات ، تولدت قوى متضاربة في داخلي اشتجرت أمداً ليس بالقصير .
تعلمت التوازن من أمي ، من طيبتها و خلقها ، من محبتها إياي ، من آيات القرآن التي كانت تعلمنيها ، من كلماتها الرقيقة الشغوفة .
أما والدي فقد كان حرصه الأكبر أن يجعل فيَّ ما يستطيع حفظه قبل أن يغادر الحياة ، إذ كان يستشعر قرب المنية ، فاهتم أيما اهتمام بتقويم لساني ، و تلقيني أبيات الشعر العربي .
و ما أنس لا أنس بيت الشعر الذي علمنيه فألهب خيالي مبكراً
ورد إذا ورد البحيرة شارباً
ورد الفرات زئيره و النيلا
كان ذاك عالمي الصغير الذي دفن فيَّ كثيراً من رغبات الطفولة ، عالمي الذي ليس فيه من المغريات شيء ، و ليس فيه رفاق من سني يلهون معي أو يلعبون ، عالمي الذي عودني أن يكون رفيقي ذاتي وحدها ، و أحلامها المرتبطة بواقعها الفريد .
لما استشعرت والدتي ذلك كله ، و أحست ما يعتور نفسي ، أرسلتني إلى روضة تابعة لقريناتها الداعيات الدينيات ، و هناك رأيت الأطفال و جلست إليهم ، لكنني ظللت دوماً غريباً عنهم .
بقيت مشدوداً إلى عالمي المميز و أجوائه ، فيه وحده كنت أحس بالراحة العميقة ، حيث لا تفاهة الأطفال الآخرين ، و لا صخبهم ، و لا عقولهم السخيفة الصغيرة .
و يبقى المشهد الخالد في ذهني لا يبرحه صلاة الجماعة التي يصطف لها الحضور في غرفة زوارنا الضيقة ، و كانت غالباً صلاة مغرب ، يربو المصلون فيها على الخمسة من طلاب العلم و الزوار الموجودين حين موعد الصلاة ، يقف والدي متقدماً عليهم ، و يبدأ في ترتيل الآيات التي دخلت مسمعي مبكراً ، فهزتني من الأعماق ، دون أن أعلم أنها ليست كلام بشر ( قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ..........)
و لكم كان يكررها ، كأنما يرى أن الصلاة لا تصح إلا بها
و للحديث تتمة
التوقيع
الأديب هو من كان لأمته و للغتها في مواهب قلمه لقب من ألقاب التاريخ
حروفك تشد من يمر عليها ويتوقف عندها
بطريقة السرد
والحديث عن طفولتك بهذا الشكل الراقي
أرى عندما ستنتهي منها ستكون رواية فيها الكثير من القيم التي تتركها الحروف عند القراءة