ولدتُ من أسرة صغيرة فقيرة في بلدة بشري في لبنان في 6 كانون الثاني 1883. كان والدي خليل جبران الزوج الثالث لوالدتي كميلة رحمة التي كان لها ابن اسمه بطرس من زواج سابق ثم أنجبتني وشقيقتيَّ مريانا وسلطانة .
كان والدي راعياً للماشية، ولكنه صرف معظم وقته في السُّكْر، ولم يهتم بأسرته التي كان على أمي كميلة، وهي من عائلة محترمة وذات خلفية دينية، ان تعتني بها مادياً ومعنوياً وعاطفياً. ولذلك لم يتم إرسالي إلى المدرسة، بل كنت أذهب من حين إلى آخر إلى كاهن البلدة الذي سرعان ما أدرك جديتي وذكائي فانفق الساعات في تعليمي الأبجدية والقراءة والكتابة مما فتح أمامي مجال المطالعة والتعرف إلى التاريخ والعلوم والآداب.
وفي العاشرة من عمري وقعت عن إحدى صخور وادي قاديشا وأصبت بكسر في كتفي اليسرى ، عانيت منه طوال حياتي.
لم يكف العائلة ما كانت تعانيه من فقر وعدم مبالاة من الوالد، حتى جاء الجنود العثمانيون يوم (1890) والقوا القبض عليه وأودعوه السجن، وباعوا منزلنا الوحيد، فاضطرت العائلة إلى النزول عند بعض الأقرباء. ولكن الوالدة قررت أن الحل الوحيد لمشاكل العائلة هو الهجرة إلى الولايات المتحدة سعيا وراء حياة أفضل.
عام 1894 خرج والدي من السجن، وكان محتاراً في شأن الهجرة، ولكن الوالدة كانت قد حزمت أمرها، فسافرت تاركة الوالد وراءها. ووصلنا إلى نيويورك في 25 حزيران 1895 ومنها انتقلنا إلى مدينة بوسطن حيث كانت تسكن أكبر جالية لبنانية في الولايات المتحدة. وبذلك لم تشعر الوالدة بالغربة، بل كانت تتكلم اللغة العربية مع جيرانها، وتقاسمهم عاداتهم اللبنانية التي احتفظوا بها.
إهتمت الجمعيات الخيرية بإدخالي إلى المدرسة، في حين قضت التقاليد بأن تبقى شقيقتيَّ في المنزل، في حين بدأت الوالدة تعمل كبائعة متجولة في شوارع بوسطن على غرار الكثيرين من أبناء الجالية. وقد حصل خطأ في تسجيل اسمي في المدرسة وأعطيت اسم والدي، وبذلك عرفتُ في الولايات المتحدة باسم "خليل جبران". وقد حاولت عدة مرات تصحيح هذا الخطأ فيما بعد إلا أنني فشلت.
بدأت أحوال العائلة تتحسن مادياً، وعندما جمعت أمي مبلغاً كافياً من المال أعطته لابنها بطرس الذي يكبرني بست سنوات وفتحت العائلة محلاً تجارياً. وكان المعلمون في ذلك الوقت يكتشفون مواهبي الأصيلة في الرسم ويعجبون بها إلى حد أن مدير المدرسة استدعى الرسام الشهير هولاند داي لإعطاء دروس خاصة لي مما فتح أمامي أبواب المعرفة الفنية وزيارة المعارض والاختلاط مع بيئة اجتماعية مختلفة تماماً عما عرفته في السابق.
كان لداي فضل في اطلاعي على الميثولوجيا اليونانية، والأدب العالمي وفنون الكتابة المعاصرة والتصوير الفوتوغرافي، ولكنه شدد دائماً على أنه يجب أن أختبر كل تلك الفنون لكي أخلص إلى نهج وأسلوب خاصين بي. وقد ساعدني على بيع بعض إنتاجي من إحدى دور النشر كغلافات للكتب التي كانت تطبعها. وقد بدا واضحاً أنني قد جعلتُ لنفسه أسلوباً وتقنية خاصين بي، وبدأت أحظى بالشهرة في أوساط بوسطن الأدبية والفنية. ولكن العائلة قررت ان الشهرة المبكرة ستعود عليَّ بالضرر، وانه لا بد أن أعود إلى لبنان لمتابعة دراستي وخصوصاً من أجل إتقان اللغة العربية.
وصلتُ إلى بيروت عام 1898 وأنا أتكلم لغة إنكليزية ضعيفة، وأكاد أنسى العربية أيضا.
والتحقت بمدرسة الحكمة التي كانت تعطي دروسا خاصة في اللغة العربية. ولكن المنهج الذي كانت تتبعه لم يعجبني فطلبت من إدارة المدرسة أن تعدله ليتناسب مع حاجاتي. وقد لفت ذلك نظر المسؤولين عن المدرسة، لما فيه من حجة وبعد نظر وجرأة لم يشهدوها لدى أي تلميذ آخر سابقاً. وكان لي ما أردت، ولم أخيب أمل أساتذتي إذ أعجبوا بسرعة استيعابي وثقتي بنفسي وروحي المتمردة على كل قديم وضعيف وبال.
تعرفت على يوسف الحويك واصدرنا معاً مجلة "المنارة" وكنا نحررها سوية فيما وضعتُ أنا رسومها وحدي. وبقينا نعمل معاً بها حتى أنهيتُ دروسي بتفوق واضح في العربية والفرنسية والشعر (1902). وقد وصلتني أخبار عن مرض أفراد عائلتي، فيما كانت علاقتي مع والدي تنتقل من سيء إلى أسوأ فغادرت لبنان عائداً إلى بوسطن، ولكنني لسوء حظي وصلت بعد وفاة شقيقتي سلطانة. وخلال بضعة أشهر كانت أمي تدخل المشفى لإجراء عملية جراحية لاستئصال بعض الخلايا السرطانية. فيما قرر شقيقي بطرس ترك المحل التجاري والسفر إلى كوبا. وهكذا كان عليَّ ان أهتم بشؤون العائلة المادية والصحية. ولكن المآسي تتابعت بأسرع مما يمكن احتماله. فما لبث بطرس ان عاد من كوبا مصابا بمرض قاتل وقضى نحبه بعد أيام قليلة (12 آذار 1903) فيما فشلت العملية الجراحية التي أجرتها الوالدة في استئصال المرض وقضت نحبها في 28 حزيران من السنة نفسها.
إضافة إلى كل ذلك كنت أعيش أزمة من نوع آخر، فقد كنت راغباً في إتقان الكتابة باللغة الإنكليزية، لأنها تفتح أمامي مجالاً أرحب كثيراً من مجرد الكتابة في جريدة تصدر بالعربية في أميركا ( كالمهاجر، ولا يقرأها سوى عدد قليل من الناس. ولكن إنكليزيتي كانت ضعيفة جداً. ولم أعرف ماذا أفعل، فكنت أترك البيت وأهيم على وجهي هرباً من صورة الموت والعذاب. وزاد من عذابي أن الفتاة الجميلة (جوزيفين بيبادي) التي كانت تربطني بها صلة عاطفية، وكنا على وشك الزواج في ذلك الحين ، عجزت عن مساعدتي عملياً، فقد كانت تكتفي بنقد كتاباتي الإنكليزية ثم تتركني لأحاول إيجاد حل لوحدي. في حين ان صديقي الآخر الرسام هولاند داي لم يكن قادراً على مساعدتي في المجال الأدبي كما ساعدني في المجال الفني.
وأخيرا قدمتني جوزفين إلى امرأة من معارفها إسمها ماري هاسكل (1904)، فخطّت بذلك صفحات مرحلة جديدة من حياتي.
كانت ماري هاسكل امرأة مستقلة في حياتها الشخصية وتكبرني بعشر سنوات، وقد لعبت دوراً هاماً في حياتي منذ أن التقيا. فقد لاحظت أنني لا أحاول الكتابة بالإنكليزية، بل أكتب بالعربية أولاً ثم أترجم ذلك. فنصحتني وشجعتني كثيراً على الكتابة بالإنكليزية مباشرة. وهكذا رحت أنشر كتاباتي العربية في الصحف أولاً ثم أجمعها وأصدرها بشكل كتب ، وأتدرب في الوقت نفسه على الكتابة مباشرة بالإنكليزية.
عام 1908 غادرت إلى باريس لدراسة الفنون وهناك التقيت مجدداً بزميلي في الدراسة في بيروت يوسف الحويك. ومكثت في باريس ما يقارب السنتين ثم عدت إلى أميركا بعد زيارة قصيرة للندن برفقة الكاتب أمين الريحاني.
وصلت إلى بوسطن في كانون الأول عام 1910، حيث اقترحت على ماري هاسكل الزواج والانتقال إلى نيويورك هرباً من محيط الجالية اللبنانية هناك، والتماساً لمجال فكري وأدبي وفني أرحب. ولكن ماري رفضت الزواج مني بسبب فارق السن، وان كانت قد وعدت بالحفاظ على الصداقة بيننا ورعاية شقيقتي مريانا العزباء وغير المثقفة.
وهكذا انتقلت إلى نيويورك ولم أغادرها حتى وفاتي . وهناك عرفت نوعاً من الاستقرار مكنني من الانصراف إلى أعمالي الأدبية والفنية فقمت برسم العديد من اللوحات لكبار المشاهير مثل رودان ، وساره برنار ، وغوستاف يانغ، وسواهم.
سنة 1923 نشرت كتاب النبي باللغة الإنكليزية، وطبع ست مرات قبل نهاية ذلك العام ثم ترجم فوراً إلى عدد من اللغات الأجنبية، ويحظى إلى اليوم بشهرة قل نظيرها بين الكتب.
بقيت على علاقة وطيدة مع ماري هاسكال، فيما كنت أراسل أيضاً الأديبة مي زيادة التي أرسلت لي عام 1912 رسالة معربة عن إعجابها بكتابي " الأجنحة المتكسرة". وقد دامت مراسلتنا حتى وفاتي رغم أننا لم نلتقِ أبداً.
توفيتُ في 10 نيسان 1931 في إحدى مستشفيات نيويورك وأنا في الثامنة والأربعين بعد إصابته بمرض السرطان. وقد نقلت شقيقتي مريانا وماري هاسكل جثماني إلى بلدتي بشري في شهر تموز من العام نفسه حيث استقبله الأهالي. ثم عملت المرأتان على مفاوضة الراهبات الكرمليات واشترتا منهما دير مار سركيس الذي نقل إليه جثماني ، وما يزال إلى الآن متحفاً ومقصداً للزائرين.
مؤلفاتي
هذه لائحة بأشهر كتبي وتاريخ نشر كل منها للمرة الأولى:
بالعربية:
1. الأرواح المتمردة 1908
2. الأجنحة المتكسرة 1912
3. دمعة وابتسامة 1914
4. المواكب 1918
بالإنكليزية:
1. المجنون 1918
2. السابق 1920
3. النبي 1923
4. رمل وزبد 1926
5. يسوع ابن الإنسان 1928
6. آلهة الأرض 1931
7. التائه 1932
8. حديقة النبي 1933
عينة من شعري
قصيدة المواكب
الخير في الناس مصنوع إذا جبروا = والشر في الناس لا يفنى وان قبروا
واكثر الناس آلات تحركها = أصابع الدهر يوما ثم تنكسر
فلا تقولن هذا عالم علم = ولا تقولن ذاك السيد الوقر
فأفضل الناس قطعان يسير بها = صوت الرعاة ومن لم يمش يندثر
ليس في الغابات راع =لا ولا فيها القطيع
فالشتا يمشي ولكن = لا يجاريه الربيع
خلق الناس عبيدا = للذي يأبا الخضوع
فإذا ما هب يوما =سائرا سار الجميع
أعطني الناي وغن = فالغنا يرعى العقول
وأنيني الناي أبقى = من مجيد وذليل
وما الحياة سوى نوم تراوده =أحلام من بمراد النفس يأتمر
والسر في النفس حزن النفس يستره = فان تولى فبالأفراح يستتر
والسر في العيش رغد العيش يحجبه =فان أزيل تولى حجبه الكدر
فان ترفعت عن رغد وعن كدر = جاورت ظل الذي حارت به الفكر
ليس في الغابات حزن = لا ولا فيها الهموم
فإذا هب نسيم = لم تجئ معه السموم
وغيوم النفس تبدو = من ثناياها النجوم
أعطني الناي وغن = فالغنا يمحو المحن
وانين الناي يبقى = بعد أن يفنى الزمن
وقل في الأرض من يرضى الحياة كما = تأتيه عفوا ولم يحكم به الضجر
لذاك قد حولوا نهر الحياة إلى = أكواب وهم إذا طافوا بها خدروا
فالناس أن شربوا سروا كأنهم = رهن الهوى وعلى التخدير قد فطروا
فذا يعربد أن صلى وذاك إذا = أثرى وذلك بالأحلام يختمر
فالأرض خمارة والدهر صاحبها = وليس يرضى بها غير الألي سكروا
فإن رأيت أخا صحوا فقل عجبا!= هل استظل بغيم ممطر قمر؟
ليس في الغابات سكر = من مدام أو خيال
فالسواقي ليس فيها = غير إكسير الغمام
إنما التخدير ثدي = وحليب للأنام
فإذا شاخوا وماتوا= بلغوا سن الفطام
اعطني الناي وغن = فالغنا خير الشراب
وانين الناي يبقى = بعد أن تفنى الهضاب
والدين في الناس حقل ليس يزرعه = غير الألي لهم في زرعه وطر
من آمل بنعيم الخلد مبتشر = ومن جهول يخاف النار تستعر
فالقوم لولا عقاب البعث ما عبدوا = ربا ولولا الثواب المرتجى كفروا
كأنما الدين ضرب من متاجرهم = أن واظبوا ربحوا أو أهملوا خسروا
ليس في الغابات دين = لا ولا الكفر القبيح
فإذا البلبل غنى = لم يقل هذا الصحيح
أن دين الناس يأتي = مثل ظل ويروح
لم يقم في الأرض دين = بعد طه والمسيح
أعطني الناي وغن = فالغنا خير الصلاة
وانين الناي يبقى = بعد أن تفنى الحياة
والعدل في الأرض يبكي الجن لو سمعوا به= ويستضحك الأموات لو نظروا
فالسجن والموت للجانين أن صغروا = والمجد والفخر والإثراء أن كبروا
فسارق الزهر مذموم ومحتقر = وسارق الحقل يدعى الباسل الخطر
وقاتل الجسم مقتول بفعلته = وقاتل الروح لا تدري به البشر
ليس في الغابات عدل = لا ولا فيها العقاب
فإذا الصفصاف ألقى = ظله فوق التراب
لا يقول السرو هذي = بدعة ضد الكتاب
أن عدل الناس ثلج = أن رأته الشمس ذاب
أعطني الناي وغن = فالغنا عدل القلوب
وأنيني الناي يبقى = بعد أن تفنى الذنوب
والحق للعزم، والأرواح أن قويت = سادت وان ضعفت حلت بها الغير
ففي العرينة ريح ليس يقربه = بنو الثعالب غاب الأسد أم حضروا
وفي الزرازير جبن وهي طائرة = وفي البزاة شموخ وهي تحتضر
والعزم في الروح حق ليس ينكره = عزم السواعد شاء الناس أم نكروا
فان رأيت ضعيفا سائدا فعلى = قوم إذا ما رأوا أشباههم نفروا
ليس في الغابات عزم = لا ولا فيها الضعيف
فإذا ما الأسد صاحت = لم تقل هذا المخيف
أن عزم الناس ظل = في فضا الفكر يطوف
وحقوق الناس تبلى = مثل أوراق الخريف
أعطني الناي وغن = فالغنا عزم النفوس
وانين الناي يبقى = بعد أن تفنى الشموس
والعلم في الناس سبل بان أولها = أما أواخرها فالدهر والقدر
وأفضل العلم حلم أن ظفرت به= وسرت ما بين أبناء الكرى سخروا
فان رأيت أخا الأحلام منفردا =عن قومه وهو منبوذ ومحتقر
فهو النبي وبرد الغد يحجبه = عن أمة برداء الأمس تأتزر
وهو الغريب عن الدنيا وساكنها = وهو المجاهر لام الناس أو عذروا
وهو الشديد وان أبدى ملاينة =وهو البعيد تدانى الناس أم هجروا
ليس في الغابات علم = لا ولا فيها الجهول
فإذا الأغصان مالت = لم تقل هذا الجليل
أن علم الناس طراً = كضباب في الحقول
فإذا الشمس أطلت = من ورا الأفق يزول
أعطني الناي وغن = فالغنا خير العلوم
وأنين الناي يبقى = بعد أن تطفى النجوم
والحر في الأرض يبني من منازعه =سجنا له وهو لا يدري فيؤتسر
فان تحرر من أبناء بجدته =يظل عبدا لمن يهوى ويفتكر
فهو الأريب ولكن في تصلبه = حتى وللحق بطل بل هو البطر
وهو الطليق ولكن في تسرعه = حتى إلى أوج مجد خالد صغر
ليس في الغابات حر = لا ولا العبد الذميم
إنما الأمجاد سخف = وفقاقيع تعوم
فإذا ما اللوز ألقى = زهره فوق الهشيم
لم يقل هذا حقير = وأنا المولى الكريم
أعطني الناي وغن = فالغنا مجد أثيل
وانين الناي أبقى =من زنيم وجليل
واللطف في الناس أصداف وان نعمت = أضلاعها لم تكن في جوفها الدرر
فمن خبيث له نفسان: واحدة = من العجين وأخرى دونها الحجر
ومن خفيف ومن مستأنث خنث = تكاد تدمي ثنايا ثوبه الإبر
واللطف للنذل درع يستجير به = أن راعه وجل أو هاله الخطر
فان لقيت قويا لينا فبه = لأعين قد فقدت أبصارها البصر
ليس في الغاب لطيف = لينه لين الجبان
فغصون البان تعلوا =في جوار السنديان
وإذا الطاووس أعطي = حلة كالأرجوان
فهو لا يدري أحسن = فيه أم فيه افتتان
أعطني الناي وغن = فالغنا لطف الوديع
وأنيني الناي أبقى= من ضعيف وضليع
والظرف في الناس تمويه وأبغضه = ظرف الألي في فنون الإقتدا مهروا
من معجب بأمور وهو يجهلها = وليس فيها له نفع ولا ضرر
ومن عتي يرى في نفسه ملكا =في صوتها نغم في لفظها سور
ومن شموخ غدت مرآته فلكا = وظله قمرا يزهو ويزدهر
ليس في الغاب ظريف = ظرفه ضعف الضئيل
فالضبا وهي عليل = ما بها سقم العليل
أن بالأنهار طعما =مثل طعم السلسبيل
وبها هول وعزم = يجرف الصلد الثقيل
أعطني الناي وغن = فالغنا ظرف الظريف
وأنين الناي أبقى = من رقيق وكثيف
والحب في الناس أشكال وأكثرها =كالعشب في الحقل لا زهر ولا ثمر
وأكثر الحب مثل الراح أيسره = يرضي وأكثره للمدمن الخطر
وان الحب أن قادت الأجسام موكبه= إلى فراش من الأغراض ينتحر
كأنه ملك في الأسر معتقل =يأبى الحياة وأعوان له غدروا
ليس في الغاب خليع = يدعي نبل الغرام
فإذا الثيران خارت = لم تقل هذا الهيام
أن حب الناس داء = بين لحم وعظام
فإذا ولى شباب =يختفي ذاك السقام
أعطني الناي وغن = فالغنا حب صحيح
وأنين الناي أبقى =من جميل ومليح
فان لقيت محبا هائما كلفا = في جوعه شبع في ورده الصدر
والناس قالوا هو المجنون ماذا عسى =يبغى من الحب أو يرجو فيصطبر؟
أفي هوى تلك يستدمي محاجره = وليس في تلك ما يحلوا ويعتبر!
فقل هم البهم ماتوا قبلما ولدوا .= أنى دروا كنه من يحيى وما اختبروا
ليس في الغابات عذل =لا ولا فيها الرقيب
فإذا الغزلان جنت = إذ ترى وجه المغيب
لا يقول النسر واها = أن ذا شيء عجيب
إنما العاقل يدعى = عندنا الأمر الغريب
أعطني الناي وغن = فالغنا خير الجنون
وأنيني الناي أبقى = من حصيف ورصين
وقل نسينا فخار الفاتحين وما = ننسى المجانين حتى يغمر الغمر
قد كان في قلب ذي القرنين مجزرة = وفي حشاشة قيس هيكل وقر
ففي انتصارات هذا غلبة خفيت = وفي انكسارات هذا الفوز والظفر
والحب في الروح لا في الجسم نعرفه =كالخمر للوحي لا للسكر ينعصر
ليس في الغابات ذكر = غير ذكر العاشقين
فالألي سادوا ومادوا = وطغوا بالعالمين
أصبحوا مثل حروف = في أسامي المجرمين
فالهوى الفضاح يدعى = عندنا الفتح المبين
أعطني الناي وغن = وانس ظلم الأقوياء
إنما الزنبق كأس =للندى لا للدماء
وما السعادة في الدنيا سوى شبح =يرجى فأن صار جسما مله البشر
كالنهر يركض نحو السهل مكتدحا = حتى إذا جاءه يبطي ويعتكر
لم يسعد الناس إلا في تشوقهم = إلى المنيع فإن صاروا به فتروا
فان لقيت سعيدا وهو منصرف = عن المنيع فقل في خلقه العبر
ليس في الغاب رجاء = لا ولا فيها الملل
كيف يرجوا الغاب جزءا =وعلى الكل حصل؟
وبما السعي بغاب =أملا وهو الأمل؟
إنما العيش رجاء = إحدى هاتيك العلل
أعطني الناي وغن = فالغنا نار ونور
وانين الناي شوق =لا يدانيه الفتور
وغاية الروح طي الروح قد خفيت=فلا المظاهر تبديها ولا الصور
فذا يقول هي الأرواح أن بلغت= حد الكمال تلاشت وانقضى الخبر
كأنما هي أثمار إذا نضجت = ومرت الريح يوما عافها الشجر
وذا يقول هي الأجسام أن هجعت = لم يبق في الروح تهويم ولا سمر
كأنما هي ظل في الغدير إذا =تعكر الماء ولت وامحى الأثر
ظل الجميع فلا الذرات في جسد= تثوى ولا هي في الأرواح تحتضر
فما طوت شمأل أذيال عاقلة =إلا ومر بها الشرقي فتنتشر
لم أجد في الغاب فرقا =بين نفس وجسد
فالهوا ماء تهادى =والندى ماء ركد
والشذى زهر تمادى =والثرى زهر جمد
وظلال الحور حور = ظن ليلا فرقد
أعطني الناي وغن= فالغنا جسم وروح
وأنيني الناي أبقى = من غبوق وصبوح
والجسم للروح رحم تستكن به =حتى البلوغ فتستعلي وينغمر
فهي الجنين وما يوم الحمام سوى = عهد المخاض فلا سقط ولا عسر
لكن في الناس أشباحا يلازمها = عقم القسي التي ما شدها وتر
فهي الدخيلة والأرواح ما ولدت = من القفيل ولم يحبل بها المدر
وكم على الأرض من نبت بلا أرج=وكم علا الأفق غيم ما به مطر
ليس في الغاب عقيم =لا ولا فيها الدخيل
أن في التمر نواة = حفظت سر النخيل
وبقرص الشهد رمز = عن قفير وحقول
إنما العاقر لفظ = صيغ من معنى الخمول
أعطني الناي وغن = فالغنا جسم يسيل
وأنين الناي أبقى = من مسوخ ونغول
والموت في الأرض لابن الأرض خاتمة = وللأثيري فهو البدء والظفر
فمن يعانق في أحلامه سحرا = سيبقى ومن نام كل الليل يندثر
ومن يلازم تربا حال يقظته . = يعانق الترب حتى تخمد الزهر
فالموت كالبحر، من خفت عناصره = يجتازه، وأخو الأثقال ينحدر
ليس في الغابات موت=لا ولا فيها القبور
فإذا نيسان ولى =لم يمت معه السرور
أن هول الموت وهم = ينثني طي الصدور
فالذي عاش ربيعا = كالذي عاش الدهور
أعطني الناي وغن =فالغنا سر الخلود
وأنين الناي يبقى = بعد أن يفنى الوجود
أعطني الناي وغن = وانس ما قلت وقلتا
إنما النطق هباء =فأفدني ما فعلتا
هل تخذت الغاب مثلي= منزلا دون القصور
فتتبعت السواقي =وتسلقت الصخور؟
هل تحممت بعطر =وتنشفت بنور
وشربت الفجر خمرا = في كؤوس من أثير؟
هل جلست العصر مثلي = بين جفنات العنب
والعناقيد تدلت =كثريات الذهب
هي للصادي عيون = ولمن جاع الطعام
وهي شهد وهي عطر = ولمن شاء المدام
هل فرشت العشب ليلا=وتلحفت الفضا
زاهدا في ما سيأتي = ناسيا ما قد مضى؟
وسكوت الليل بحر = موجه في مسمعك
وبصدر الليل قلب =خافق في مضجعك
أعطني الناي وغن=وانس داء ودواء
إنما الناس سطور = كتبت لكن بماء
ليت شعري أي نفع = في اجتماع وزحام
وجدال وضجيج = واحتجاج وخصام؟
كلها أنفاق خلد = وخيوط العنكبوت
فالذي يحيا بعجز =فهو في بطء يموت
العيش في الغاب والأيام لو نظمت =في قبضتي لغدت في الغاب تنثر
لكن هو الدهر في نفسي له أرب = فكلما رمت غابا قام يعتذر
وللتقادير سبل لا تغيرها = والناس في عجزهم عن قصدهم قصروا
وقد غنت السيدة فيروز جزءً منها من ألحان الموسيقار اللبناني فليمون وهبه
جبران ...
أنت حكيم العرب المعاصر
تعلمنا المحبة من ندائك الصارخ في فضاءات الكون ..
كي تنبت شجرة المحبة في قلوب البشر ...
جبران ...
شربنا كلماتك مع حليب أمهاتنا فعلمنا كيف نرى و نتذوق العبقرية و الجمال ..
جبران ... أعطني الناي ... كي أغني بعضاً من بكائيات روحي و عذابات الناس ..
لك المحبة و المودة و التقدير
وحدها هي المثيرة للجدل، بل إن حياتك أيضا صارت مادة
خصبة لكثير من الكتاب الذين وجدوا فيها مادة لا تقل إثارة عن شعرك.
وعلى الرغم من كثرة المصائب التي حلت بك وقصر حياتك
فإنك تركت ستة عشر كتابا عربيا وإنجليزيا وآلافا من الرسوم
التي نُشر بعضها في كتبك، ربما كان أكثرها شهرة هو كتابك
(النبي) والذي كتب بالإنجليزية ونال شهرة عالمية
وأصبح يدرس في الجامعات الأمريكية والعالمية
ويتصدر المكتبات بلغات متعددة .
وكانت لك علاقة حب عبر المسافات جمعتك
بالشاعرة (مي زيادة) التي كانت تعيش في القاهرة
وكانت تراسلك في نيويورك من 1912و حتي قبيل وفاتك بشهرين.
تضمنت الرسائل بينكما دراسات حول مؤلفاتك وآفاق الحركة
الثقافية في مصر ونيويورك.
.................................................. .......................................
سيدتي الفاضلة شروق
ألا أستحق كل تلك الأوصاف التي تحدثتِ عنها ؟
ألا أستحق حب مي ؟
.........
على كل حال
أشكرك على هذه المشاركة الجميلة
تحية واحترام
جبران ...
أنت حكيم العرب المعاصر
تعلمنا المحبة من ندائك الصارخ في فضاءات الكون ..
كي تنبت شجرة المحبة في قلوب البشر ...
جبران ...
شربنا كلماتك مع حليب أمهاتنا فعلمنا كيف نرى و نتذوق العبقرية و الجمال ..
جبران ... أعطني الناي ... كي أغني بعضاً من بكائيات روحي و عذابات الناس ..
لك المحبة و المودة و التقدير
.................................................. ........
سيدي الفاضل مهتدي
المعاناة تخلق الإبداع في أغلب الأحيان
وأنت تعلم كم عانيت في هذا العالم القاسي
وليس السياب عنك ببعيد ،فقد عانى أكثر مني ولكن يكفيه فخراً أنه كتب قصيدة (أنشودة المطر)
..............
على كل حال
أشكرك على هذه المشاركة القيمة والتي أثلجت صدري
لك كل محبة واحترام
قلتَ : احفظ في حياتك حكمتين الأولى: لا تحاول الوصول الى انسان.......لا يحاول الوصول اليك... الثانيه : لا تحارب العالم من اجل انسان لا يستطيع محاربة كبريائه من اجلك،
كيف توصلت إلى هذه الحكم و بما تدعمها ..؟
شكرا جبران
التوقيع
لايكفي أن تطرق باب الإنسانية لتحس بمجيئها نحوك , عليك أن تخطو تجاهها و التوقف عن الاختباء خلف الزمن,
قلتَ : احفظ في حياتك حكمتين الأولى: لا تحاول الوصول الى انسان.......لا يحاول الوصول اليك... الثانيه : لا تحارب العالم من اجل انسان لا يستطيع محاربة كبريائه من اجلك،
كيف توصلت إلى هذه الحكم و بما تدعمها ..؟
شكرا جبران
...........................................
سيدتي الفاضلة مرمر
الحكمة هي فضل من الله يؤتيه من يشاء
(ومن يؤتَ الحكمةَ فقد أوتي خيراً كثيرا)
والحكمة تأتي أيضاًكمحصلة لتجارب قاسية يعيشها المرء
هذا بالإضافة إلى القراءة والتعلم والدرس
..........
شكراً لهطولك العذب