قراءة في قصيدة وقصتها
ابتداء من العنوان
وباختصار شديد
الطوفان لغة يعني الإحاطة بالشيء .. وطاف بالقوم طوفا وطوفانا اي استدار وجاء من نواحيه وفي التنزيل الحكيم " يطاف عليهم بآنية من فضة " وأطاف به وعليه طرقه ليلا ..لقوله تعالى " فطاف عليها طائف من ربك وهم نائمون "
وقيل الطوفان هو الماء الكثير الذي يغشى مكان ما من جهاته الأربعة وقيل المطر الغالب الذي يغرق وقيل الموت العظيم وكل موت ما كان كثيرا ومحيطا بالجماعة كالقتل والمطر المغرق والطاعون وما سواه مما يؤدي الى القتل العظيم
كقوله تعالى " أخذهم الطوفان وهم نائمون وقوله تعالى وارسلنا علهم الطوفان والجراد .. "
مما تقدم نرى ان الشاعراستحضر الطوفان في قصيدته كعنوان رمزي مقتبسا ذلك من قصة " الأب الثاني " سيدنا نوح عليه السلام
حين قال " رب لا تذرعلى الأرض من الكافرين ديارا .. اي صاحب دار .. إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا الا فاجراكفارا" فكان الطوفان وجاء طلب شاعرنا لإحساسه بالقهر والعجز والخذلان وايمانه المطلق بأن الوضع اصبح مشابها لما كان عليه ايام سيدنا نوح . وفي قصة سيدنا نوح فقد جاءالطوفان تلبية ربانية لمطلب نبي .. لعلم الله بحال من قصدهم نوح علي السلام
وهذا ما يبرر استعارة الشاعر لمفردة الطوفان وقد جاء مواكبا لما يعتمل في النفس وما يرى من احداث.
أبي الثاني ...!
أَتى الطُّوفانُ
كادَ الموجُيغرقُنا
فهلْ نبَّهتَ أَتباعَكْ ؟
وهل أَنذرتَ أَعداءَكْ ؟
عُبابُالماءِ سوفَ يكون أَعلى مِنْ
ذُرى الجودِيِّ ... والأُوراسْ
أَتى الطّوفانْ
اعتبر الشاعر هنا ما يحصل على الأرض وما نحن مقبلون عليه من احداث بمثابة طوفان قد أحاق وسيحيق بما تبقى من الأمة واستشعر ذلك بحاسة الخبير المتابع للأحداث وما يوازيها في القرآن من احداث اعتبارا مما حصل في افغانستان وفي فلسطين وما هو مقدم على العراق من نتائج تنذر بالشر الكبير
وإنْ لم تقتنعْ فارجعْ لحاسوبِكْ
وراجعْ موقعَ الطُّغيانْ
وهنا اشارة ذكية الى" الحاسوب" وهو المكان الذي يحتفظ بالمعلومات القديمة والحديثة وربما يريد بها الذاكرة التي تعيد التاريخ وما رافقه من احداث وبان الطغيان واحد في كل العصور وان اختلفت التسميات
ألَمْ تعلمْ بِأَنَّ المؤمِنينَ بِكُمْ
قَدِ انْقَرَضوا ؟
وعاد النّاسُ للتَّسبيحِ والتَّهليلِ للأَوثانْ
وَيَسْتَجْدونَ من أَصنامِهِمْ شيئاً مِنَالإِحسانْ
وخذْ ما شئتَ من أمثالْ :
" يغوثٌ " ... تاجرٌ للنِّفطِ مِنْتِكساسْ
" يعوقٌ " ... نائِبٌ ليغوثَ ، صِلٌّ حاقِدٌ خَنَّاسْ
" وَ نَسْرٌ " ... سَيْفُ أَربابٍ، تُحَزُّ بِهِ رِقابُ النّاسْ
فهل صدَّقتَ... سيدَنا ؟
ويوجه الكلام الى الأب الثاني " نوح عليه السلام " منبها ان من صعد الى السفينة ونجا كان ممن آمن برسالته وأنه لم يبق من أحفادهم من احد يحمل الأيمان وان الوضع عاد كما كان قبل الطوفان " فاجرا كفارا "
وربما أشار هنا الى الدول الكبرى التي لا يهمها سوى مصالحها ولديها استعداد لعمل طوفان جديد في أي مكان في سبيل تحقيق مآربها
وربما الى الحكام وهو ما اظنه عناه بالأصنام
إذ أصبح الأيمان بالأوثان بديلا للأيمان بالله ولهذا لزم الطوفان وهو مطلب سيدنا نوح عليه السلام " انك ان تذرهم يضلوا عبادك ... " وقد تأله حكام هذا اللزمان واصبحوا يطلبون العبادة من العباد
و إن لم تقتنعْ فارجع لحاسوبِكْ
و راجع موقعَ الإِفْرَنْجِ والرُّومانْ
وهنا مرة اخرى يعيد للذاكرة موقعها وللعين فعلها بالتنبيه الى ما يفعل الإفرنج وما يخططون له
واراه هنا ايضا قد توافقت قصته مع القصيدة
أتعرِفُ حالَ أَحفادِكْ؟
لقدْ ضلّوا ....
أضاعوا دَفَّةَ الرُّبّانْ
وراحَ السّوسُ ينخَرُهُمْ
كما نَخِرَتْ مَراكِبُهُمْ
وَقادَتُهُمْ
تَفشَّى فيهِمُ السَّرطانُ
و الزُّهَرِيُّ والسَّيَلانْ
فضائِحُهُمْتردِّدُها فَتاةُ الحانِ للنُّدمانْ
وحدِّثْ عن مخازيهمْ بلا حَرَجٍ
ولا يزال القهر والحنق والغضب والخذلان والإحباط يلازم الشاعر في كل حرف يكتبه ويؤكد احساسه بعدم صلاح حال هؤلاء الأحفاد الذين أتى آباؤهم على ظهر السفينة بصفتهم من الصالحين المؤمنين فإذا بهم يملكون الكثير الكثير من الأموال ولا يملكون زمام انفسهم ولم يعودوا مؤمنين بربهم بل واصبحوا قتلة مأجورين واكثر كفرا وعنادا وشهوانية واصبحت قصصهم تزكم الأنوف
وإن لمتقتنعْ فارجعْ لحاسوبِكْ
وراجعْ موقعَ الأَعرابْ
وهذه اللازمة التي اعتمدها الشاعر في نهاية كل مقطع تجمل الحال من فاعل الى مفعول به ومن سيد الى مسود ومن رأس الى ذنب
وكل ذلك يوافق ما جاء به الشاعر من قصة للقصيدة
لتَعْذُرْني أَبي الثّاني !
إذا لم أَذكُرِ الألقابْ
فقدْ صارت مناديلاً
عليها بالَ كلبُ" يغوثَ " في الحَمّامْ
فهل صدّقتَ أَنَّ أَميرَ أَحفادِكْ
أَجازَ عِبادَةَ الأَصنامْ ؟
وأعلَنَها أَمامَ وسائل الإعلامْ
وسَبَّحَفي صباحِ العيدِ في اسْتِرْحامْ :
" يغوثَ الخيرِ...سامِحْنا
يعوقَالنُّورِ ... ساعِدْنا
و يا نَسْرَ الحُروبِ احْشِدْ و خَلِّصْنا
و خذْ ماشِئتَ للقُربانْ
كنوزُ بلادِنا ساغَت لَكُمْ لُقْمَهْ
و كلُّ نسائِنا وبناتِنا أَقنانْ
تسبِّحُ …تَشْكُرُ النِّعْمَهْ"
ويعود مخاطبا " الأب الثاني " وصاحب الطوفان " نوح " عليه السلام معتذرا منه لقوله الحقيقة وهوما يزال ينزف قهرا وحرقة وعجزا حين يَسِم هؤلاء الأحفاد وما يحملون من ألقاب بانهم اصبحوا عبيدا للغرب الكافر فملَّكوهمك زمامهم وزمام أمتهم حتى أحلّوا لهم أعراضهم وأموالهم وما يملكون واستعدادهم لقتل الأخوة فقط ليحوزوا رضاهم ومباركتهم
وقد جاء ذلك في وصف دقيق جدا ويناسب القصة التي أتت بالقصيدة
و عفواً ، ألف مَعذرةٍ ، أَبي الثّاني
إذا ما دارَ في خَلَدِكْ
بأَنِّي ماجِنٌ … سَكرانْ
أَنا لَمْ أَشْرَب الخَمرَهْ
لَعمري لمأُعاقِرها وَلا مرَّهْ
وقد حرَّمْتُ أنْ تجري بِشِرياني
ولكنِّي ....
أَنَاْ ابْنُ العيشَةِ المُرَّهْ
أَنا ابنُ العالَمِ المسكونِ بالخذلانْ
أنَاْ ابنُ ضَحِيَّةٍ حُرَّهْ
سَبَتها طُغْمَةُ القُرصانْ
أنا حَجَرٌ ،و إسمِنْتٌ ، وَ آجُرَّهْ
تعيدُ بناءَنا الخاوي مِنَ السُّكانِ
في نابُلْسَ … في رَفَحٍ … وَ في بيسانْ
أنا جَمْرَهْ
ستحرقُ عابِدَ الأَوثانْ
أَنافِكْرَهْ
تعيدُ العَدلَ للميزانْ
وإن لم تقتنعْ ، فارجع لحاسوبِكْ
وراجعْ موقَع القرآنِ
تَعْرِفْني
واخيرا وقد بلغ بالشاعر الحزن مبلغه على حال تعيشه الأمة وقام بتبرير مطلبه وموقفه بوصف الحالة العامة للناس من امثاله المكبوتين المحرومين بانهم اناس بسطاء طيبون وأنهم يعيشون القهر والعذاب والنكران والأحباط والخذلان وقد جاء باوصاف تناسب الحالة العامة للناس
حين يقول
انا ابن العيشة المرة
انا ابن العالم المسكون بالخذلان
انا ابن ضحية حرة
سبتها طغمة القرصان
فأي قهر وعذاب نفس يتملك المرء حين يحس هذا ولا يستطيع دفع الذى عنه وعن عرضه وخصوصا اذا كان ذلك على يد ابن دينه وجلدته ؟؟؟
وإن لم تقتنعْ ، فارجع لحاسوبِكْ
وراجعْ موقَع القرآنِ
واخيرا وبحسه الديني وفطرته الباحثة في كتابه المقدس وقراءاته للتاريخ قد تنبأ ببشرى غد قادم أكثر إشراقا
حين يقول
انا فكرة تعيد العدل للميزان
وقد بدأ ذلك امامنا وعيانا والقادم أجمل ان شاء الله
واستلهم كل ذلك من القرآن العظيم
وحينما قال " تعرفني " فقد قرن المعرفة بالقرآن فما أجملها من نهاية متفوقة على كل ما جاء
فهو يعني انه ابن هذا الدين وهذا القرآن الذي هو سبيله الى الخلاص
وقد تفوق شاعرنا في رسم قصته شعرا وفي استخدام حاسوبه الذي جعلنا نعود اليه بعد كل حالة
وجاءت رائعته مقنعة تماما ومتماسكة ومرتبطة مع الأحداث وقد اصاب حاسوبه " البارومتري " عين الصواب
أتمنى ان اكون قد وفقت فيما ذهبت اليه