عندما يصدح صوت فيروز في الفضاء فانه يتلون بألوان خلابه ويزهو بهاءاً وجمالا ً، يتبعثر صوتها عطرا ً في صباحاتنا ، لنرتشف شهدَ موسيقى عذبة وهي تغني بصوت يلامس الروح ..
عندما تشدو فيروز بصوتها الجبلي الصباحي ، تغسل ما علق في النفس من ألم ، فهي الأغنية التي لا تنسى أبداً ، وهي ذاك الصوت الطفولي الذي يكبر بدواخلنا يكبر ويكبر كزهرة ياسمين بيضاء نقية لا تموت..
فيروز.. ذاك الصوت المخملي يداعب أطياف الصباح تعطي للعالم جرعة ( حياة ).. بعد موت طويل ، ما تبدأ أن تعزف ترنيماتها الصباحية حتى نجد الحياة قد ملأت المكان ، تنظر إلى الشجر والحجر وكأنه يرتل مع أنغامها أغنية الفجر وعودة الحياة ، لتمر الساعات وصدى أغانيها ما زالت عالقة ً في ذاكرتنا.
كيف لا وهي الرحبانية الانسانه التي علمت البشر أن الفن رسالة قبل أن يكون فنا ً، وأن الغناء الملتزم بلسم الروح ، لقد قال عنها الشاعر الفلسطيني محمود درويش ( هي الأغنية التي لا تنسى دائما ً، و هي التي تجعل الصحراء أصغر وتجعل القمر أكبر )..
احتارت الأقلام في تفسير هذه الظاهرة الإنسانية النادرة الوجود فكتبوا لها وعنها شعراً ونثرا ً، وكان لهذا الصوت النادر الوجود الدور الكبير في أن تكون الملهم الأول للكثير من الأقلام ، فتجدها تمعن في بحر الإبداع وهي تستمع إلى فيروز، لقد كتبوا عنها مقالات ودراسات ، لمعرفة أسرار ذلك الخلود ومصدر الأمان النفسي الذي تمنحنا إياه فيروز، فهل أعطوها حقها ؟
فيروز .. ظاهرة عجزت الأقلام عن تفسيرها حتى الآن وظاهرة إنسانيه قبل أن تكون غنائية لا تتكرر أبدا ً..!! ربما ستولد أصوت أخرى جميله لا يمكن لنا أن ننكرها وان نتنكر لدورها الإبداعي إلا إن فيروز هي مدرسة مختلفة عن الجميع لها أبجدياتها ولها جمهور يكبر يوما ً بعد يوم ومهما تقدم الزمن لقرون قادمة باعتقادي أن لمسات فيروز الانسانيه في الموسيقى العربية ستبقى تتناقلها الأجيال يوما ً بعد يوم ، بل وربما ستكون عِلمَا ً منفصلا ً بحد ذاته يضاف إلى علم الموسيقى الحديث.
كانت فيروز وما زالت تقدم جميع ألوان الغناء حيث تنوعت أغانيها بين البسيط ، البسيط إلى المعقد والذي جعلتنا نستمتع بها بعيدا ً عن التكلف والتعقيد .. لذلك وصلت أغنياتها إلى جميع بقاع الأرض ، واستمع العربي وغير العربي لها ، نرى في أغنيات فيروز وما قدمته من إبداع يفوق حدود الوصف والكتابة فنّاً ملتزماً بالإنسانية فغنت للطفولة وكان ( شادي ).. نموذجا ً لا ينسى للطفولة البريئة والتي سعت تلك الإنسانة " فيروز " الى إسعادها ورسم بسمة ٍ على شفاهها ، واهتمت بألم الإنسان وشقائه ومتاعبه الحياتيه ، حيث استطاع صوتها أن يقتحم العمق الإنساني وان يتغلغل في أعماق النفس البشرية ، حملت على عاتقها هموما ً كثيرة استطاعت وبكل براعة وإتقان إيصالها إلى العالم فكان لبنان وهمومه.. مصدر إلهامها من خلال الكثير من أغنياتها ( بحبك.. يا لبنان ) حملت هموم الوطن وما مر من أزمات وحروب على ذلك البلد من ويلات لم ينسها الطاعون القاتل الذي يغزو جسد الوطن، لقد نادت وبكل جبروت يحمله صوتها في تحسس مشاكل الناس وعذاباتهم وحقهم في حياة شريفة كريمة فاضلة.
كما عايشت فيروز القضية الفلسطينية منذ أن أبصرت عيناها الحيا ة ، فكان الهَمْ الفلسطيني وقضية الشعب الفلسطيني حاضرة معها أينما ذهبت وأينما وصلت وأيضا ً أينما وصل صوتها ، غنت لفلسطين للعَلم والأرض والإنسان ، والقهر الذي يمارسه الاحتلال على شعب أعزل ، وللقدس وشوارعها العتيقة وللإخوة المسيحية الإسلامية في توحدها درعا ً متينا ً في مواجهة محتل غاصب ، ومازال (صدى أجرس العودة فل تقرع ) تدق في أذهاننا وحتما ً ستقرع مهما طال الزمان أنها الحتمية التاريخية التي لا يمكن أن ننساها مهما بلغت أمواج الظلم والإحباط ، أجراس العودة حتما سوف تقرع ونعود إلى قدسنا وأرضنا وزرعنا ومائنا الذي لن نتنازل عنه .
بلا شك إن هذا الشكل من الفن الإنساني هو من أعطى فيروز الاستمرارية والديمومة فترة طويلة من الزمن ، وجعل لها نجاحا ً مبهرا ً يزداد يوما ً بعد يوم ، بالرغم من تخطيها الثلاثة عقود وهي تغني إلا أنها استطاعت أن تتربع على عرش الأغنية الهادفة الملتزمة ، وان يكون لها هذا المد الجماهيري دون تراجع ، لأنها صاحبة ذوق في انتقاء كلماتها فكرا ً ومضمونا ًفأبدعت إبداعا ً ملحوظا ً وكأنها في غنائها تخوض حوارا ً مع النفس الإنسانية بكل ظواهرها وبواطنها ، وتوجت نفسها سفيرة للثقافة الإنسانية والفن، فتخطت كل الحدود الفاصلة وعبرت بفنها وثقافتها وفكرها كل مكان ..