(1)
في 16/10/2016م نشرت مقال (البحث اللغوي والثقافي والتحليل القرائي الحركي والنصي في نص "نصائح أب" للسادس الابتدائي) الذي قلت فيما يصلح هنا عن زيف عنوانه: (... وعلى الرغم من توفيقهما - مؤلفي الكتاب- المتكرر المشار إليه آنفا فإنهما فإنهما لم يوفقا في اختيار العنوان.
لم؟
لأن هذا العنوان يوضح أن الأمر أمر أبوة إنسانية فقط، وما هذا بالأمر الصحيح.
فماذا إذا؟
إنه أمر الإيمان والكفر، وعاقبة كل منهما، وما كان سيدنا نوح في دعوته ابنه بأكثر حرصا منه في دعوته أي شخص آخر غيره؛ فهو رسول، والرسول مهمته الدعوة إلى الله تعالى، ويكون حرصه على إيمان المدعو من دون اهتمام بصلته النسبية به. وقد دلت الآيات التالية على تأكيد ذلك، قال تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ{(45) {قَالَ يَانُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)} [هود: 45، 47]. إذًا العنوان الصحيح هو: عاقبة الكفر والإيمان).
وفي 20/10/2016م نشرت مقالي (نص "نصائح أب" .. التحليل المعجمي البلاغي) الذي تناول تحليل كلمات النص معنى وضدا و...، وبلاغة.
وهأنذا أكتب للمرة الثالثة حول هذا النص الثر متناولا المهارات اللغوية الاستثنائية التي يثيرها هذا النص في المعلم والمتعلم كليهما.
ماذا يثير هذا النص القرآني من مهارات صوتية ولغوية؟
دعنا نقرأ النص أولا.
قال الله تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَابُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَاأَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَاسَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} [هود: 41 - 44].
(2)
وبعد أن قرأنا النص القرآني برواية حفص عن عاصم نبدأ بالمهارة اللغوية الأولى.
ما هي؟
إنها المهارة الصوتية المتمثلة في الإمالة الكبرى في كلمة {مَجْراهَا} [هود: 41] بإمالة الألف نحو الياء، وهي تخالف النطق المعتاد لمد الألف في العامية والفصحى، وهذا يحتاج تدريبا من متقن للقراءة. وهذه يجب أن تكون هدفا سلوكيا إجرائيا يتعمد المعلم تقويمه عند المتعلم.
وفي الآية التي تليها تأتي المهارة الصوتية الثانية.
ما هي؟
هي الإدغام غير المعهود للباء في الميم في في {ارْكَب مَّعَنَا} [هود: 42] حيث قلبت الباء ميما، ثم أدغمت في الميم. والإدغام باب غير مستعمل في العامية، وهذا الموضوع غريب على من لم يعتد القرآن من المعلمين والمتعلمين معا؛ لذا يستوجب تدريبا وتدربا بعد إدراجه هدفا سلوكيا إجرائيا ليصبح مهارة.
(3)
وفي الآية الرابعة والأربعين نجد التقاء همزتين في قوله تعالى:{وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي} [هود: 44]، وهذه حالة غير معتادة في يوم المعلم والمتعلم معا؛ لذا لا بد أن يحرص المعلم أن يحقق تلميذه الهمزتين بالضم والفتح لا أن يحذف واحدة وينط الأخرى، ويجب التحلي بالصبر والدربة ليكتسب التلميذ تلك المهارة اللغوية القرآنية.
وفي الآية ذاتها نجد الفعل المبني لغير الفاعل الذي هُجر في لغة كتب اللغة العربية في التعليم ما قبل الجامعي بل وفي التعليم الجامعي التربوي في أقسام اللغة العربية.
وأدى غيابه إلى وجود أخطاء لغوية كثيرة منها نشوء تراكيب لم تكن معهودة كما نشرت قبلا في موضوعات النقد اللغوي والتعليمي يجب العمل على محوها من هذا الباب لنحييه من جديد.
وفي باب المبني لغير الفاعل مهارات بناء الفعل الأجوف التي يجب أن يستحضرها المعلم والمتعلم معا وأن يسيح سياحة لغوية ماتعة حالاته الثلاثة من الكسر الخالص أو الإشمام أو الضم الخالص؛ استثمارا للفعل {وَغِيضَ الْمَاءُ} [هود: 44].
وإحياء لهذا الباب أنقل من (شذا العرف في فن الصرف) للحملاوي مبحث (التقسيم السادس للفعل: من حيْثُ بناؤه للفاعل، أو المفعول).
{التقسيم السادس للفعل من حيْثُ بناؤه للفاعل أو المفعول:
ينقسم الفعل إلى مبنىّ للفاعل، ويُسَمَّى معلومًا، وهو ما ذُكرَ معه فاعلُه، نحو: حَفِظ محمد الدرس. وإلى مبنيٍّ للمفعول، ويسمَّى مجهولاً، وهو ما حُذف فاعله وأنيب عنه غيرهُ، نحو: حُفِظ الدرسُ. وفى هذه الحالة يجب أن تغيَّر صورة الفعل عن أصلها؛ فإن كان ماضيًا غير مبدوء بهمزة وصلٍ ولا تاء زائدة، وليست عينه ألفا- ضُمَّ أولُه، وكُسِرَ ما قبل آخره ولو تقديرًا، نحو: تُعُلِّم الحسابُ، وتُقُوتِلَ مع زيد. وإن كان مبدوءًا بهمزة وصل ضُمَّ الثالث مع الأول نحو: اُنطُلق بزيد، واستُخرج المعدن. وإن كانت عينه ألفا قلبت ياء، وكُسر أوله بإخلاص الكسر، أو إشمامه الضم، كما فى قال وباع واختار وانقاد، تقول: بِيع الثوب، وقيل القول، واخْتِيرَ هذا، وانْقِيد له. وبعضهم يُبقي الضم، ويقلب الألف واوًا كما فى قوله:
لَيْتَ وهل ينفعُ شيئًا لَيْتُ ... ليتَ شَبَابًا بُوعَ فاشتَريْتُ
وقوله:
حُوكَتْ عَلى نِيريْنِ إذْ تُحَاكُ ... تَخْتَبِطُ الشَّوكَ ولا تُشاكُ
رُويا بإخلاص الكسر، وبه مع إشمام الضم، وبالضم الخالص. تُنْسب اللغة الأخيرة لبني فَعْسٍ وَدُبَيْر، وادَّعى بعضهم امتناعها فى انفعل وافتعل.
هذا إذا أمِنَ اللبس؛ فإِن لم يؤمَن كُسِرَ أول الأجوفِ الواوىّ، إن كان مضارعه على يفعُل بضم العين، كقول العبد: سِمت أى سامنى المشترى، ولا تضُمَّهُ؛ لإيهامِهِ أنه أنه فاعل السَّوم، مع أن فاعلَه غيرهُ. وَضُمَّ أوَّل الأجوف اليائي ... إلخ. وكذا الواوىّ، إن كان مضارعه على يفعَل بفتح العين، نحو: بُعتُ: أى: باعنى سيدى، ولا يُكسَرُ؛ لإيهامه أنه فاعل البيع، مع أن فاعله غيره. وكذا خُفْتُ، بضم الخاء، أى أخافنى الغير.
وأوجب الجمهور ضمَّ فاء الثلاثىّ المضعف، نحو: شُدَّ ومُدَّ، والكوفيون أجازوا الكسر، وهى لغة بنى ضبَّة، وقد قُرِئ {هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا}، {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ} بالكسر فيهما، وذلك بنقل حركة العَين إلى الفاء، بعد توهم سلْب حركتها. وجوَّز ابن مالك الإشمام فى المضعف أيضًا حيث قال:
وَمَا لِبَاعَ قَد يُرى لِنَحْو حَبّ
وإن كان مضارعًا ضُمَّ أوله، وفتح ما قبل آخره ولو تقديرًا، نحو: يُضْرَبُ عَلَيَّ، ويُردّ المبيع. فإن كان ما قبل آخر المضارع مدًّا كيَقول ويبيع، قُلب ألفا، كيُقال، ويُباع.
ولا يُبْنى الفعل اللازم للمجهول إلا مع الظرف أو المصدر المتصرفين المختصين، أو المجرور الذى لم يلزم الجارَ له طريقة واحدة، نحو: سِيرَ يومُ الجُمْعة، وَوُقِفَ أمامُ الأمير، وجُلس جلوسُ حسن، وفُرِح بقدوم محمد. بخلاف اللازم حالة واحدة، نحو: عندَ، وإِذَا، وسُبحَانَ، ومَعَاذَ. تنبيه: ورد فى اللغة عدة أفعال على صورة المبني للمجهول، منها: عُنيَ فلان بحاجتك: أى اهتمّ. وزُهِيَ علينا: أى تكبَّر. وفُلِجَ: أصابه الفالِج. وحُمَّ: استحرَّ بدنه من الحُمَّى. وسُلَّ: أصابه السُّل. وجُنّ عقله: استتر. وغُمّ الهِلال: احتجب، والخبرُ: استعجم. وأُغمِي عليه: غُشيَ. وشُدِهِ: دَهِشَ وتحيَّر. وامتُقِع أو انتُقِع لونُهُ: تغيّر.
وهذه الأفعال لا تنفك عن صورة المبنيَّ للمجهول ما دامت لازمة، والوصف منها على مفعول، كما يُفهم من عباراتهم، وكأنهم لا حظوا فيها وفى نظائرها أن تنطبق صورة الفعل على الوصف، فأتَوا به على فُعِل بالضم، وجعلوا المرفوع بعده فاعلا.
ووردت أيضاً عدّة أفعال مبنية للمفعول فى الاستعمال الفصيح، وللفاعل نادرًا أو شذوذًا، وهذه مرفوعها يكون بحسب البنية؛ فمن ذلك بهتَ الخصمُ وبَهت، كفرح وكَرُم، وهُزِل هَزَلَة المرض، ونُخِيَ ونَخَاه، من النَّخوة، وزُكِمَ وزَكَمَهُ الله، ووُعِك ووعَكَه، وَطُلَّ دَمُه وَطَّله، وَرُهِصَت الدابة وَرَهصَها الحَجَر، وَنُتِجَتْ الناقة، ونَتجَها أهلُها ... إلى آخر ما جاء من ذلك، وعدَّه اللغويون من باب عُنِيَ.
وعلاقة هذا المبحث باللغة أكثر منها بالصرف.
(4)
وآخر هذه المهارات مهارة بلاغية تخص أسلوب الأمر وتعالج خطأ في كتاب خارجي سيّار في اللغة العربية.
كيف؟
يقول ذلك الكتاب السيار في نص "نصائح أب" في بند الجماليات ص 73 من قوله تعالى: {وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} [هود: 41]: {(ارْكَبُوا فِيهَا): أسلوب أمر غرضه الحث والنصح والإرشاد}، وكأنه ليس هناك غرض للأمر إلا هذا.
فهل هذا صحيح؟
لا.
لماذا؟
لأن الغرض هنا الإلزام؛ لأنه أمر حقيقي أتى مِنْ جهة مَنْ يملك الأمر وهو سيدنا نوح، ووقع على من يجب عليهم الطاعة والتنفيذ وهم المؤمنون.
وهذا غير الأمر في قوله تعالى في النص ذاته: (ارْكَبْ مَعَنَا) من قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ} [هود: 42].
لماذا؟
لأن الأمر هنا ليس على حقيقته.
لماذا؟
لأنه من أب مؤمن إلى ابن كافر لن يطيع؛ لذا فالأمر هنا غرضه النصح والإرشاد كما قال ذلك الكتاب ص74.