المرأة إذا شـــــــاءت
فى تلك السنة من القرن السادس الميلادى أوشك ألا يكون للناس حديث إلا هذه الحرب المندلع أورارها بين بنى عبسٍ وبنى ذبيان . فلقد طال التناحر بين القبيلتين حتى كادت زهرة فتيانهما يحصدها السيف فلا تبقى أمٌ عبسية أو ذبيانية إلا وذاقت مرارة الثكل ولوعته .
ولكن الحارث بن عوف ، سيد بنى مرة ، صرف الحديث عن الحرب إلى أمر آخر استأثر بهمه كل استئثار . فهو يريد أن يتزوج .وهو معتز بماله وجاهه .فيقول لجليسه خارجة بن سنان المُرّى :
_ يا خارجة ! اترانى أخطب إلى أحدٍ فى العرب ابنته ، فيردنى ؟
وشد ما كانت دهشته حين أتاه الجواب :
_ نعم ، إن أوس بن حارثة بن لام الطائى يردك إذا خطبت إليه إحدى بناته .
فوثب الحارث على فوره ، وصاح بغلامه :
_ ياغلام ارحل بناإلى أوس بن حارثة الطائى . لا تبطئ لحظة عين .
وركب الحارث وركب غلامه وركب سنان بن خارجة ، واندفعوا لا يلوون على شيئ حتى بلغوا ديار أوس .
فقال أوس حين رأى الحارث : _ مرحبا بك
رد الحارث : _ وبك أيضا . لقد جئتك خاطبا يا أوس .ولن انزل حتى تؤنسنى بقبول .
أجاب أوس : _ يا صاحبى لست والله هناك (1).
فارتبك الحارث وانصرف مغموما مقفل الشفتين .
أما أوس فدخل على امرأته فتبينت على وجهه غضبا فسألته :
_ من الرجل الذى وقف عليك ، فلم يطل بينكما الكلام ؟
قال لها : _ يا أخت عبس (2) ، ذلك الحارث بن عوف المرّى .
ردت : _ الحارث بن عوفٍ سيد العرب ؟! ما بالك لم تعزم عليه ؟ (3)
أجابها : _ إن الرجل استحمق ! فقد أتانى خاطبا .
فصاحت به : _ أو تريد أن تزوج بناتك ؟ أم أنت تريد أن تبقيهن عوانس ؟ فإن لم تزوج سيدا كالحارث بن عوف ، فمن تزوج إذن ؟ اسرع فتدارك ما كان منك .
رد أوسٌ بعد إطراق : _ أراك يا أخت عبس ، قد غلوت فى الطلب . فكيف أتدارك ما كان منى ، وقد جبهت الرجل ؟
أجابت : _ تلحقه الساعة فتقول له : إنك فاجأتنى بأمرٍ لم يتقدم فيه كلام ، فلم يكن عندى من الجواب إلا ما سمعت . وسترى أنه يثنى عنان جواده فيتبعك .
فخرج أوس وركب فى إثر الحارث .
------------------------
1 - يعنى أنك لم تصب حاجتك فى هذا المكان
2 - كانت زوجة أوس عبسية
3 - لم تدعُه بإلحاح
وسمع خارجة بن سنان خبب جوادٍ وراءهم ، فالتفت فرأى أوسا يسعى نحوهم . فأقبل على الحارث فقال له : _ أرى الرجل يسعى فى إثرنا !
فرد الحارث : _ وما شأننا به ؟ امض !
فلما رأى أوس أن الحارث ما زال يحث السير صاح به : _ يا ابن عوف ! اربع علىّ ساعة . فوقف الحارث حتى دنا منه أوسٌ وقال له :
_ إنك فجأتنى يا رجل ، فلا تغضب ، وإن لك عندى ما تحب . فكأن سحابةً انقشعت عن وجه الحارث ، فأشرقت أساريره ، وقال لأوس :
_ إن كان ذلك فأنا عائدٌ معك الساعة .
ودعا أوس الحارث بن عوف وغلامه وخارجة بن سنان إلى خيمةٍ أعدها للضيوف ، ثم دخل على زوجته فقال لها :
لقد أصبت يا أخت عبس ، ها هو الرجل ينتظر فى خيمة الضيوف . ادعى لى كبرى بناتنا . فدعتها فلما صارت بين يدى أبيها قال لها : _ يا بنية ، هذا الحارث بن عوف ، من سادات العرب ، جاءنى خاطبا ، وقد أردت أن أزوجك إياه ، فما تقولين ؟
فأطرقت لحظة ، ثم قالت : لا تفعل يا أبى .
قال وقد اتسعت عيناه بالدهشة : ولم ؟
قالت : لأن فى وجهى ردة (4) ، وفى خلقى بعض العهدة (5) ، ولست بابنة عمه فيرعى ما بيننا من رحم (6) ، وليس بجارك فى البلد فيستحى منك ، ولا آمن أن يرى منى ما يكره فيطلقنى . ففكر أوسٌ ثم قال : _ قومى يا بنية ، بارك الله عليك ، وادعى لى أختك الوسطى . فغابت الفتاة وحضرت أختها ، فقال لها أبوها :
_ يا بنية ، رأيت أن أزوجك الحارث بن عوف من سادات العرب . فإنه أتانى خاطبا ، فما رأيك ؟
أجابته : اعفنى يا أبى . فأنت تعلم أنى خرقاء ، وليست بيدى صناعة ، ولا آمن أن يجد فىّ ما يكره فيطلقنى . وما هو ابن عمى فيرعى لى حقا، ولا هو جارك فى بلدك فيداريك .
قال أبوها : بارك الله عليك ، وادعى لى بهية ، أختك الصغرى . فما لبثت الصغرى أن أقبلت عليه ، فخاطبها بما خاطب بها أختيها من قبلها .
فأجابته : امض يا أبى فيما عزمت عليه . فعجب أوسٌ وقال : ولكنى عرضت الأمر على أختيك ، فخافتا أن يرى الرجل منهما ما يكره فيطلقهما . فردت :
_ وعلام أخاف ؟ وأنا الجميلة وجها ، الصناع (7) يدا ، الرفيعة خلقا، الحسيبة أبا ، فإن طلقنى فلا أخلف الله عليه !
فضحك أوس ، ثم خرج إلى خيمة الضيوف ، فقال للحارث : إنى زوجتك بهية ، بنتى الصغرى ، فهى التى قبلتك من أخيّاتها جميعا .
فأجاب الحارث : _ وإنى قبلت . وهذا حارثة بن سنان وغلامى يشهدان علىّ .ولن أبرح حتى أحمل معى عروسى . فعاد أوس إلى امرأته وأمرها أن تهيئ بنتها وتصلح من شأنها .ثم أمر ببيتٍ فضرب للحارث وأنزل فيه ، ثم بعث إليه عروسه .فلم يلبث الحارث عنده هنيهةً حتى خرج معجلا . فسأله خارجة بن سنان : أبنيت بأهلك يا حارث ؟ (8) . فأجابه : لا والله .فإنى ما دنوت منهاحتى قالت : حياءك يا رجل ، أعند أبى وإخوتى ؟ ... هذا والله لا يكون .فأخجلتنى .
_ قد ترين إنى أحضرت من المال ما يرضيك وملأت قصاع الطعام ودعوت الجموع الحاشدة ، فماذا بعد هذا تريدين ؟ ولم تعرضين بمروءتى وشرفى وأنا السيد الكريم ؟
أجابت : أى سيدٍ ؟! وأى كريم ؟! تفرغ للنساء والعرب يقتل بعضها بعضا ؟! هذه عبسٌ أوشكت أن تفنى ذبيان ، وتلك ذبيان توشك أن تفنى عبس ، والأرض تحتج للدم المراق . اخرج إلى القوم فامش بينهم بالصلح ، وانههم عن هذا السفه . ويومئذٍ أنت السيد الكريم ! فخرج الحارث يتفصد جبينه عرقا. ولقيه خارجة بن سنان فسأله : لعلك بنيت بأهلك يا حارث ؟ قال : لا والله . ما رأيت كاليوم فتاة عرضت بمروءتى وشرفى لأنى أفرغ للنساء ، والعرب يقتل بعضهم بعضا .
**************************************************
(4) : _ ردة إلى القبح . (5) : _ العهدة : الضعف . (6) : _ رحم : قرابة . (7) : _ الصناع يدا : الحاذقة فى الصناعة . (8) : _ صيغة سؤال يقصد بها : هل أتممت فعل الزواج ؟
_ أما قلت لك إن فى هذه الفتاة همةً وعقلا ؟ فماذا أنت فاعل ؟
_ وهل بقى يا خارجة سبيل إلا أن أمشى إلى عبسٍ وإلى ذبيان فأسعى بالصلح بينهما ؟!
_ وإنى أعرف لك شريكا فى هذه المحمدة هو هرم بن سنان . فلقد أقسم بأن يدفع من ماله ديات القتلى إذا كفت القبيلتان عن الحرب ...
قال الحارث : _ لعلهم استقلوا الديات . فأنا أدفع من مالى فتضاعف دية كل قتيل ونحقن الدماء .
قال خارجة : _ إنهم حسبوا الديات ، فإذا هى ثلاثة آلاف بعير .
_ لتكن ثلاثة آلاف بعير . فأنا وهرم بن سنان ندفعها . هيا بنا .
***
وقدر للحارث بن عوف وهرم بن سنان أن يصلحا بين عبسٍ وذبيان ويدفعا ديات القتلى من القبيلتين ثلاثة آلاف بعير ، ويحسما الشر ، ويحقنا الدماء .
وكان ذلك كله بفضل امرأة .
ولما دخل الحارث بن عوف على عروسه بهية يبشرها بالنبأ ، فتحت له ذراعيها تعانقه وقالت :
_ أهلا بالسيد فى العرب ! اليوم قمت بحقى ، لا يوم نحرت الجزور والغنم وملأت بطونا فى عرس .
وتسامع الناس بما كان من حديث هذه المرأة فى دفع البلاء وحقن الدماء ، فقال أحدهم :
يا للمرأة إذا شاءت !
وقال ثان :
_ على أن تشاء الخير !
فقال ثالث : _ ولكنها لا تشاء إلا الخير ! لن تشاء تدمير الحياة ما دامت أما ، تتجدد بها الحياة .
أما تعرف أخي الكريم سر الختم أن المرأة إذا شاءت فعلت ،
وأن باستطاعتها فعل الكثير
لكن وكما ورد في معرض قصتك ، وحوارها الجميل فإن المرأة
تشاء الخير وبكل الحب غالباً .
شكراً لحسن اختيارك ، ونقلك الطيب الهادف .
بوركت ،، تقديري