اختارت هذه الآية شخصية استغرقت زمنا طويلا وعزما وإصرارا وصبرا وجلدا على إتمام مهمة . واختارت الآية امرأةً دون الرجل لما للمرأة من الصبر والتحمل وعدم التضجر أكثر من الرجل . ولذلك كانت المرأة هي التي تقوم بالغزل في الماضي كما كانت النساء والبنات يقمن في قرانا بصناعة الأطباق من سعف النخيل . تخيل امرأة ظلت تعكف على غزلٍ لها أياما عديدة حتي أوشك على النهاية . تخيل ما بذلت هذه المرأة من جهدٍ وطاقةٍ وعزيمة لا تلين . كم حرمت نفسها من الأنس مع صاحباتها وكم أصابها من آلام العضلات وتركيز النظر والمخ في شغلها . هل يُعقل أن تنقض غزلها وتبعثر خيوطه فجأةً ودون مقدمات؟ هل يُعقل أن يذهب ذلك المجهود الجبار سدىً؟ إنه حقا لشيئٌ مؤلمٌ يبعث على الأسى والأسف أن ينهار ذلك الصرح العظيم دفعة واحدة . هذا ما يحدث تماما عندما ننقض عهدا أو اتفاقا أو ميثاقا أبرمناه مع جماعة وأشهدنا عليه الله . تبهرني قوة الأمثال وجمالها في القرآن الكريم .
الحق تبارك وتعالى يضرب لنا في هذه الآية مثلاً توضيحياً للذين ينقضون العهد والأَيْمان، ولا يُوفون بها، بهذه المرأة القرشية الحمقاء ريْطة بنت عامر، وكانت تأمر جواريها بغزل الصوف من الصبح إلى الظهر، ثم تأمرهُنَّ بنقض ما غزلنه من الظهر حتى العصر، والمتأمل في هذا المثل يجد فيه دروساً متعددة.
الغَزْل عملية كان يقوم بها النساء قديماً، فكُنَّ يُحضِرْن المادة التي تصلح للغزل مثل الصوف أو الوبر ومثل القطن الآن، وهذه الأشياء عبارة عن شعيرات دقيقة تختلف في طولها من نوع لآخر يُسمُّونها التيلة، فيقولون " هذه تيلة قصيرة " وهذه طويلة ".
والغَزْل هو أن نُكوِّن من هذه الشعيرات خَيْطاً طويلاً ممتداً وانسيابياً دون عُقَد فيه لكي يصلح للنسجْ بعد ذلك، وتتم هذه العملية بآلة بدائية تسمى المغزل. تقوم المرأة بخلط هذه الشعيرات الدقيقة ثم بَرْمِها بالمغزل، ليخرج في النهاية خيطٌ طويل مُنْسابٌ متناسق لا عُقَد فيه.
والآية هنا ذكرتْ المرأة في هذا العمل؛ لأنه عمل خاص بالنساء في هذا الوقت دون الرجال، فكانت المرأة تكنّ في بيتها وتمارس مثل هذه الصناعات البسيطة التي تكوِّن منها أثاث بيتها من فَرْش وملابس وغيره.
فالقرآن ضرب لنا مثلاً بعمل المرأة الجاهلية، هذا العمل الذي يحتاج إلى جَهْد ووقت في الغزل، ويحتاج إلى أكثر منه في نَقْضه وفكِّه، فهذه عملية شاقة جداً، وربما أمرت الجواري بفكِّ الغزل والنسيج أيضاً؛ ولذلك أطلقوا عليها حمقاء قريش.
وقوله: { مِن بَعْدِ قُوَّةٍ... } كلمة قوة هنا تدلُّنا على المراحل التي تمرُّ بها عملية الغَزْل، وكم هي شاقة، بداية من جَزِّ الصوف من الغنم أو الوبر من الجمال، ثم خَلْط أطراف كل تيلة من هذه الشعيرات، بحيث تكون طرف كل تيلة منها في وسط الأخرى لكي يتم التلاحم بينها بهذا المزج، ثم تدير المرأة المغزل بين أصابعها لتخرج لنا في النهاية بضعة سنتيمترات من الخيط، ولو قارنَّا بين هذه العملية اليدوية، وبين ما توصلتْ إليه صناعة الغزل الآن لَتبيَّن لنا كم كانت شاقة عليهم.
فكأن القرآن الكريم شبَّه الذي يُعطِي العهد ويُوثِّقه بالأيْمان المؤكدة، ويجعل الله وكيلاً وشاهداً على ما يقول بالتي غزلتْ هذا الغزل، وتحملت مشقته، ثم راحتْ فنقضت ما أنجزته، وفكَّتْ ما غزلته.
وكذلك كلمة (قوة) تدلُّناَ على أن كل عمل يحتاج إلى قوة، هذه القوة إما أنْ تُحرِّك الساكن أو تُسكِّن المتحرِّك؛ لذلك قال تعالى في آية أخرى:{ خُذُواْ مَآ ءَاتَيْنَٰكُم بِقُوَّةٍ.. } [البقرة: 63].والحق ـ تبارك وتعالى ـ بهذا المثَل المشَاهد يُحذرنا من إخلاف العهد ونقْضه؛ لأنه سبحانه يريد أن يصونَ مصالح الخلق؛ لأنها قائمة على التعاقد والتعاهد والأيْمان التي تبرم بينهم، فمَنْ خان العهد أو نقضَ الأيْمان لا يُوثق فيه، ولا يُطْمأنُ إلى حركته في الحياة، ويُسقطه المجتمع من نظره، ويعزله عن حركة التعامل التي تقوم على الثقة المتبادلة بين الناس. وقوله: { أَنكَاثاً.. }.جمع نِكْث، وهو ما نُقِض وحُلَّ فَتْله من الغزل.
جوزيتم ألف خير
التوقيع
[SIGPIC][/SIGPIC]
آخر تعديل شاكر السلمان يوم 08-25-2016 في 10:42 PM.