كان لأبي العلاء المعرّي وهو شيخ ، صديق شاب أديب و شاعر من المجيدين اسمه محمد بن علي الجبليّ . كان بينهما مشاعرة فاختطفته يد المنون سنة 439 هـ والمعري قد تجاوز السبعين فحزن عليه حزناً شديداً فنظم فيه مرثيته التي مطلعها :
غير مجدٍ في ملتي واعتقادي ـــــــــ نوح باكٍ و لا ترنم شــــــــاد
ومن رثائه يُفهم أن المرثيّ قد مات وهو في عنفوان الشباب ـــ يقول :
وخلعتَ الشباب غضاً فياليـ ــــــــــ تك أبليته مع الأنداد
فاذهبا خير ذاهبين حقيقـَ ـــــــــــ ين بُســــقيا روائح وغواد
ويبدو أن الشاعر كان معجباً بهذا الرجل لما عُرف فيه من مزايا خـُلـُقية وعلمية فلم يكن تباين العمر مانعاً من نشوء الصداقة بينهما وتمكـّنه في قلبيهما . ولعل الجبليّ كان ممن يختلف إلى مجلس أبي العلاء ليستفيد من حكمته وعلمه فكان ذلك مما قرّبه إليه فاستطاع أن يكسب عطف الشاعر عليه ومحبته له وتقديره لمزاياه حتى قال فيه : (ويكنـّيه بأبي حمزة)
قصد الدهر مع أبي حمزة الأوّاب ـــــــــــــــ خِدنَ حجىً وخِدن اقتصاد
أنفق العمر ناسكا يطلب العلـ ـــــــــــــــــــــ م بكشفٍ عن أصله وانتقاد
ذا بنانٍ لا يلمس الذهب الأحـ ـــــــــــــــــــ مر زُهداً في العسجد المستفاد
وتلك مزايا عُرف بها المعري نفسه فلا عجب أن يأنس بمن اتصف بها ولو كان من غير لِداته . و مهما يكن فالذي لا شك فيه أن الفقيد كان عزيزاً على المعري مقرّباً إليه وكان لموته وقعٌ شديد في نفسه . وتظهر شدة أسفه عليه وتكريمه لشخصيته أنه طلب بحرارة من القائمين بأمر جنازته ودفنه أن يغسلوه بالدموع بدل الماء وأن يـّكفـّنوه بأوراق المصاحف بدل العاديّ من الأكفان وأن يـّدفنوه طيّ الصدور لا تحت صفائح القبور . ثم يلتفت ويخاطبه من قلبٍ كسير :
كيف أصبحت في محلك بعدي ـــــــــــــ يا جديراً مني بحسن افتقاد
قد أقر الطبيب عنك بعجزٍ ـــــــــــــــــ وتقضّى تردّد العُـــــــــــوّاد
وانتهى اليأس منك واستشعر الوجْـ ـــ د بأن لا معاد حتى المعاد
وطبيعيّ من مثل المعرّي وقد علت سنـّه ونظر إلى الحياة نظر الحكيم المختبر فعرفها على حقيقتها أن لا يقف في مرثاته لصديقه عند حد الأسف والبكاء .
أسف غير نافع واجتهاد ــــــــــــــ لا يؤدّي إلى غناء اجتهاد
ولكنه أمام القبر يعيد النظر متأملاً في وجود الإنسان وحقيقة الحياة فيرى أن كل شيئ باطل وكل الوجود إلى زوال .
صاحِ هذي قبورنا تملأ الرحب ــــــــ فأين القبور من عهد عاد
خفف الوطء ما أظن أديـ ــــــــــــــ ــم الأرض إلا من هذه الأجساد
تعبٌ كلها الحياة فما أعـ ــــــــــــ ــجب إلا من راغبٍ في ازدياد
ولكنه ينظر في قصيدته إلى حياةٍ أخرى وراء هذه الحياة ـ إذ يقول :
خـُلق الناس للبقاء فضلـّت ـــــــــ أممٌ يحسبونهم للنفاد
إنما يُنقلون من دار أعما ___ لٍ إلى دار شِقوةٍ أو رشاد
آخر تعديل سرالختم ميرغني يوم 08-29-2016 في 01:25 AM.