كنت محصورا بين نومي وصحوي وهما يتنازعان.. وأذناي تترقبان قدوم نداء النداهة.. الرياح العاتية تغزو قريتنا، تستقوي على بيوتها الطينية، ترج الأبواب المقفلة، تصفع الصومعة التي شيدتها أمي، وتدور في داخلها؛ فتصرخ وكأنها تنزع أحشائها، فأشد الغطاء على وجهي وأغطس متلبدا بين إخوتي الغارقين في نومهم، ينبح كلب عم شعبان بغضب؛ فيطمئن قلبي كثيرا؛ فلربما قام الكلب بمطاردتها.
النوم يروح ويجيء.. أكاد أن أمسك به وهو يقترب رويدا رويدا من أجفاني المترنحة.........
الباب يطرق بلطف، وصوت امرأة عجوز يناديني... حاولت الفكاك من قبضتها الخشنة وأنا أصرخ.. أيقظتني أختي، واندفعتُ أرتجف في أحضانها.
لم يمض وقت طويل وقد رأيت الشمس تدخل من فواصل نافذتنا المتهالكة، العصافير على أغصانها تنبح في أذني وكأنها نسيت التغريد، الألحفة على جانبي مكومة تبعث برائحة النوم إلى الشباك الموارب، صوت أمي وإخوتي يملأ الردهة التي تطل على السماء بلا حجب، أتمكر نائما، وأستميت في المكر حتى تحن علي والدتي وتمنحني اليوم أجازة من المدرسة..
دقائق وسمعتها تقول لأختي اتركيه ينام؛ فلربما الكابوس أتعبه، وأخذ من ساعات نومه.
ما ألطفك يا أمي.. رفست الغطاء وقمت مسرعا، أفتش عن فانوس رمضان الذي صنعته البارحة من علبة سالمون فارغة، ورحت أصب (الجاز) في الزجاجة المتدلية من أسفله، أشعله تاره، وأطفئه تاره، حتى بدا لي جيدا.. ثم تفرغت لأفكر في الليل القادم...
_ أمي
_ نعم يا بني؟
_ كم بقي على رمضان؟
_ أسبوعان يا ولدي
_ من يغلب الآخر يا أمي؛ النداهة أم الكلب؟
ابتسمت لي وهو تقول: تعالى معي إلى الحقل لنعطي الإفطار لأبيك.. وبينما أمد يدي لها رأيتني ابتسم لأيام طفولتي.. وفجأة أفقت من ذكرياتي على صراخ طفل، يستغيث تحت عنفوان سكين، يبدو أنه في يد مجنون، ومن قريب الأم تهرول لاهثة.. قائلة: لا تخيف ابنك يا رجل.
__________
عبدالله عيسى
8/ 3/ 2020
معاني المفردات:
– النداهة: هي من إحدى الأساطير المصرية المتداولة في الأرياف المصرية، والمعتقد بها أنها تنادي الناس في الليالي المظلمة وتقوم بقتلهم؛ وهذا الإعتقاد عند الفئة البسيطة من أهالي الريف؛ وخصوصا القدامي.
– صومعة: مفرد صوامع. وهو بناء طيني، يعد فوق منازل الفلاحين، أو بجوارها ، وذلك لخزن القمح.