1- الإيضاح في علوم البلاغة للخطيب القزويني
ومنه التجريد، وهو أن ينتزع من أمر ذي صفة أمرا آخرا مثله في تلك الصفة مبالغة في كمالها فيه.
وهو أقسام: منها نحو قولهم: لي من فلان صديق حميم. أي بلغ من الصداقة مبلغا صح معه أن يستخلص منه صديق آخر. ومنها نحو قوله: لئن سألت فلان لتسألن به البحر. ومنها نحو قول الشاعر:
وشوهاء تعدو بي إلى صارخ الوغى*بمستلم مثل الفنيق المرحل
أي تعدو بي ومعي من نفسي لكمال استعدادها للحرب مستلئم أي لابس لأمة.
ومنها نحو قوله تعالى: (لهم فيها دار الخلد). فإن جهنم أعاذنا الله منها هي دار الخلد لكن انتزع منها مثلها، وجعل معدا فيها للكفار؛ تهويلا لأمرها.
ومنها نحو قول الحماسي: فلئن بقيت لأرحلن بغزوة ... تحوي الغنائم أو يموت كريم
وعليه قراءة من قرأ: (فإذا انشقت السماء فكانت وردة كالدهان) بالرفع/ بمعنى فحصلت سماء وردة. وقيل: تقدير الأول (أو يموت مني كريم)، والثاني (فكانت منه وردة كالدهان)، وفيه نظر.
ومنها نحو قوله: يا خير من يركب المطي ولا ... يشرب كأسا بكف من بخلا
ونحوه قول الآخر: إن تلقني لا ترى غيري بناظرة ... تنس السلاح وتعرف جبهة الأسد
ومنها مخاطبة الإنسان نفسه كقول الأعشى: ودع هريرة إن الركب مرتحل ... وهل تطيق وداعا أيها الرجل
وقول أبي الطيب: لا خيل عندك تهديها ولا مال ... فليسعد النطق إن لم يسعد الحال
2- (البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها) لعبد الرحمن الميداني
التجريد في اللّغة: قَشْرُ الشيء، كَقَشْرِ اللِّحاء عن الشجرة حتَّى تكون مجرّدة من لِحَائِها، وإزالَةُ ما على الشيء من ثوب ونحوه، وتَعْرِيتُه، وإزالة ما على الجلْدِ من شَعَرٍ ونَحْوِه. التجريد في الاصطلاح هنا: أن ينتزع المتكلّم الأديب من أمْرٍ ما ذي وصفٍ فأكثر أمْراً آخر فأكثر مِثْلَهُ في الصفة أو الصفات على سبيل المبالغة. ويظهر لنا معنى المبالغة حينما نلاحظ أَنّها قائمة على ادّعاء أنّ الشيْءَ الّذي يُنْتَزَعُ منه مثله على سبيل التجريد هو بمثابةِ الذي يفيض بأمثال ما يُسْتَخْرَجُ منه دواما.
فمن قال: "لي من فلان صديق حميم" فكأنَّما جرَّدَ فُلاَناً من كُلٍّ ظواهره واستخرج منه صَدِيقا حَمِيما.
قال "أبو عليّ الفارسي" في سبب تسمِيَةِ هذا النوع بالتجريد: "إِنَّ العرب تعتقد أنّ في الإِنسان مَعْنىً كامناً فيه، كأنَّهُ حقيقته وَمَحْصُولُه، فَتُخْرِجُ ذلِكَ المعنى إلى ألفاظها مُجَرّدا عن الإِنسان، كأنَّهُ غَيْرُهُ، وهو هو بعينه، كقولهم:
لَئِنْ لَقيتَ فُلاَناً لَتَلْقَيَنَّ به الأسَدَ، ولَئِنْ سَأَلْتَهُ لَتَسْأَلَنَّ مِنْهُ الْبَحْرَ
وهو عينهُ الأسَدُ والْبَحْرُ، لا أنَّ هُنَاكَ شيئاً مُنْفَصِلاً عَنْهُ أو متميّزاً منه.
وعلى هذا النّمط كوْنُ الإِنسان يخاطِبُ نفسه حتَّى كأنّه يُقَاوِلُ غَيْرَهُ، كما فَعَل "الأعْشَى" في قوله: "وَدِّعْ هُرَيْرَةَ إِنَّ الرّكْبَ مُرْتَحِلُ"...
ويكون التجريد بأساليب من التعبير، منها الأساليب التالية:
الأسلوب الأول: التجريد باستخدام حرف الجرّ "مِنْ" داخلا على المنتزع منه.
أمثلة: المثال الأول: قولهم: "لِي مِنْ فُلاَنٍ صَدِيقٌ حَمِيم". أي: بلغ من الصداقة والمودة الصحيحة مبلغاً صحَّ معه أن يُسْتَخْرَجَ منه صَديقٌ آخرُ مثله في صفاته، فهو منْبَعُ أمثاله.
المثال الثاني: قول الله عزّ وجلّ: {وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُوْلَائِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ}.أي: ولْتَكُونُوا يا أيُّها الّذِينَ آمَنُوا بمحمّد وبما جاء به عن رَبِّه أُمِّةً يَدْعُونَ إلى الخير ويأمرون بالمعروف ويَنْهَون عن المنكر.
الأسلوب الثاني: التجريد باستخدام "الباء" الجارَّة داخلةً عَلى المنتَزَعِ منْه.
أمثلة: المثال الأول: أن تقول: "لَئِنْ سَأَلْتَ فُلاَناً لَتَسْأَلَنَّ بِهِ البحْرَ، ولَئِنْ نَظَرْتَ إليه لترَيَنَّ به الْبَدْر، ولَئِنْ سَمِعْتَ كلامَه لتَجِدنَّ بِه السِّحْر".
المثال الثاني: قولي صانعا مثلا:
فَتَىً كُنْتُ أرْتَابُ في شَأنِهِ * وأَحْسَبُهُ مَاكِراً فَاسِقاً*
فلَمّا تَقَصَّيْتُ أَسْرَارَهُ * رَأَيْتُ بِهِ وَرِعاً صَادِقاً*
الأسلوب الثالث: التجريد باستخدام "الباء" الجارّة الداخلة على المنتزَع:
ومنه قول الشاعر:
*وَشَوْهَاءَ تَعْدُو بي إلَى صَارِخِ الْوَغَى * بِمُسْتَلْئِمِ مِثْلِ الْفَنِيقِ الْمُرَحَّلِ*
وشَوْهَاء: أي: ورُبّ فَرَسٍ شَوْهَاءَ قبيحة المنظر لِسَعَةِ أشداقها، وهذا مما يستحْسنُ في الخيل المعدَّة للحرب.
تَعْدُو بي: أي تُسْرِعُ بي.
إلى صَارخ الوغى: أي: إلى الصّارخ الذي يَصْرُخ داعياً إلى الحرب.
بمُسْتَلْئِمٍ: الْمُسْتَلْئِم هو لابس لأمَةِ الحرب، أي: عدّة الحرب وسلاحها، ويقصد نفسه، إذ هو الْمُسْتَلْئِمُ، والفرسُ تَعْدُو به، وهذا على سبيل التجريد، والباء هنا داخلة على المنتزَعِ لا على المنتزَعِ منه.
مِثْلِ الْفَنِيق: الْفَنِيقُ هو الْفَحْلُ المكرَّم عند أهله، شبّه نفسه به.
الْمُرَحَّلُ: هُو البعيرُ الذي وُضِعَ عليه رَحْلُه وأرْسِلَ مُنْدَفِعاً في رِحْلَتِه.
الأسلوبُ الرابع: التجريد باستخدام حرف الجرّ "فِي" داخلاً على المنتزع منه.
ومن أمثلته قولُ الله عزّ وجلّ في سورة (فُصِّلَتْ/ 41 مصحف/ 61 نزول):
{ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَآءً بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ}.
إنّ جهنَّمَ هي دَارُ الْخُلْدِ يوم الدّين لأعداء الله، ولكن جاء على طريقة التجريد، إذِ انْتُزِعَ من جَهَنَّمَ دَارٌ وجُعلَتْ داراً لهم، بأسلوب استخدام "في" الجارّةِ الظرفية دَاخلَةً على المنتزَعِ منه.
الأسلوب الخامس: التجريد باستخدام العطف على الْمُنْتَزَعِ منه، مثل مرَرْتُ بالرَّجُلِ الكريم، والنّسَمَةِ المباركة، والعالم التقي.
ففي هذا المثال عَطْفُ: النسمة المباركة، وعطف العالم التقيّ، على الرَّجُل الكريم، وهذا العطف يشعر بأنه عطفُ تغايُر، مع أنّ المعطوفين هما الرَّجُلُ الكريم نفسه، ولكن على طريقة التجريد، فكأنَّهُمَا شخصان مغايران له.
الأسلوب السادس: التجريد باستخدام الكناية، ومن الأمثلة على هذا قول الأعْشَى:
*يَا خَيْرَ مَنْ يَرْكَبُ الْمَطِيَّ وَلاَ * يَشْرَبُ كَأْساً بِكَفِّ مَنْ بَخِلاَ*
يريد أنّ ممدوحه لا يشرب كأساً بكفِّ بخيل، إنّما يشربُ بكف كريم، وبما أنّ هذا الممودح جوادٌ كريم فهو لا يشرب غالباً إلاَّ بكف نفسه، فقد جرّدَ الأعشى من مدوحه شخصاً كريماً ورأى أنه لا يشْرَبُ إلاَّ بكفّه.
الأسلوب السابع: التجريد دون استخدام لفظ يَدُلُّ عليه، ومن الأمثلة على هذا قولُ مَسْلَمَةَ الحنفيّ:
*فَلَئِنْ بَقِيتُ لأَرْحَلَنَّ بِغَزْوَةٍ * تَحْوِي الْغَنائِمَ أَوْ يَمُوتُ كَرِيمُ*
البلاغة العربية أسسها وعلومها وفنونها (ص: 795)
أي: تحوي هذه الغزوة الغنائم التي يَنَالُ منها ظافراً، أو يَموتُ هو فيها، فعبّر عن نفسه بقوله: "أو يَمُوتُ كريم" على طريقة التجريد، لِيُثْنِيَ على نَفْسِهِ بصفة الكريم.
الأسلوب الثامن: التجريد عن طريق مخاطبة الإِنسان نفسه، ومنه قول "الأعشى":
*وَدِّعْ هُرَيرَةَ إِنَّ الرَّكْبَ مُرْتَحِلُ * وَهَلْ تُطِيقُ وَدَاعاً أَيُّها الرَّجُلُ*
ومنه قول الْبُوصيري في بُرْدَته يخاطب نفسه على طريقة التجريد:
*أَمِنْ تَذَكُّرِ جِيرَانٍ بِذِي سَلَمِ * مَزَجْتَ دَمْعاً جَرَى مِنْ مُقْلَةٍ بدَمِ*
ومنه قول المتنبّي يخاطب نفسه على طريق التجريد:
*لاَ خَيْلَ عِنْدَك تُهْدِهَا وَلاَ مَالُ * فَلْيُسْعِدِ النُّطْقُ إِنْ لَمْ تُسْعِدِ الْحَالُ*
ومن التجريد فرع سمَّوهُ "عِتَابَ الْمَرْءِ نَفْسَه" وضَربُوا له أمثلةً منها:
أن يقول النادم نحو: "يا ليتني" أو "يَا حَسْرتا على فرَّطْتُ في جنْب الله" وهما مما جاء في القرآن.