صوت عصافير القنبر، ومواتير رفع المياه هما الصخب الرائع هنا في مزارع (الطلمبات) السمكية.. أرتشف الشاي ببطء، ودواخلي مفتوحة يرتع فيها العراء بشغف.. وددت أن يشدني الغماز نحو الأسفل، لأرتع أنا الآخر وألعب مع الأسماك تحت الماء..
النار بجواري، ألقمها بقطع من الأغصان اليابسة، فيفوح من هذا الجحيم رحمات من الدفء، تبتلع صقيع شهر طوبة، وبهذا تكتمل موسوعة الإمتاع.
على الحافة الأخري؛ قبالتي: ينهمك المزارع الصغير في عمله، ثوبه المشمور المبلل يذكرني بوالدي وهو يروي حقول الأرز.. ما الطف هذا الصغير وهو يتمتم متعصبا من عصيان الماتور عن التشغيل.. يركله بقدمه الحافية، يحاول أكثر من مرة.. يلف يد التدوير وعيناه شاخصتان على ابني، الذي هو من نفس عمره تقريبا.
ولما فرغ من التشغيل: مشى تجاهي متزنا؛ من خلال جسر خشبي نحيل جدا.. ذكرني هذا بصراط يوم القيامة، حين يمر عليه الأتقياء الأنقياء في توازن.
وقف أمامي، وألقى التحية بشهامة الكبار.. ثم جلس متربعا، يفرك كفيه الصغيرتين بلهب النار، وعيناه ما زالتا مسروقتان تجاه ابني.. سألته:
– ما إسمك يا بطل؟
– عمر
– في أي صف دراسي أنت يا عمر؛ الثالث ابتدائي أم الرابع؟
– أنا ما دخلت المدرسة يا عمو.
لم يمهلني استكمال حديثي؛ وإذ به يجرى ليلتقط الصنارة التي ألقاها ابني بإهمال؛ كي يلحق بعصفور متعثر.. أمسك عمر الصنارة بغشم، وقبل أن يلقيها في الترعة: ناداه والده بصوت جهوري فيه عتب... لماذا لم تعلف الأسماك يا ولد... ؟ اذهب سريعا.. ولا تنس إخراج السمك النافق، وتزويد الماتور بالوقود.. و..................
رجع الصغير وأقدامه تجره إلى المزرعة، وعيناه تلوى عنقه إلى الخلف.
____________
عبدالله عيسى
ملحوظة: فكرة القصة مقتبسة من فكرة القصة (نظرة) للكاتب الكبير يوسف إدريس. رحمه الله.