حَنَانَيكَ يَا بَحرُ يَـا ذَا العُبَـابِ
و يَـا خِلِّـيَ الأَزَلِـيَّ الوَفِـي
حَنَانَيكَ إِن مَرَّ طَيـفُ حَبِيبِـي
بِشَطِّـكَ مُستَنجِـداً ، فَـارأَفِ
و ليطمئن قلبه للبحر و أنه سيرضى باستعطافه فإنه يذكره بقصتهما معه : فهما من بنيا على الرمل عند شاطئه قصرا سكنا بقلب حديقته
فَيَا كَم بَنَينَا عَلَى الرَّملِ قَصـراً
بِقَـلـبِ حَدِيقَـتِـهِ نَختَـفِـي
ما أورعه من وصف لقصة حبيبين يجعلان حديقة قصر بنياه معا على رمل الشاطئ ملتقى لهما...
و يستمر بسرد قصته و حبيبته مع البحر فهما من ركضا و موج البحر كان يتتبع خطاهما كعاشق،
و هما من كانا يناجيان السفن المبحرات و يحتفيان بالطير التي تمر في الأفق:
و يَا كَم جَرَينَا ، ومَوجُكَ يَقفُـو
خُطَانَا كَمَـا العَاشِـقِ المُدنَـفِِ
نُنَاجِـي سَفَائِنَـكَ المُبحِـرَاتِ
و بِالطَّيرِ فِـي أُفْقِهَـا نَحتَفِـي
و كم راقبا شمس المغيب و هي تقبل البحر لكنها لا تنطفي...
و نَرنُو إِلَى الشَّمسِ عِندَ المَغِيبِ
تُقَبِّـلُ فَــاكَ و لا تَنطَـفِـي
صور خلابة و وصف بديع جدا في هذين البيتين :
كَـأَنَّ بِهَـا لِشِفَاهِـكَ شَـوقـاً
أَيَا بَحرُ فَارفُقْ بِهَـا و اْعطِـفِ
و دَعهَا تَنَمْ بَعدَ يَـومٍ طَوِيـلٍ
أَطَلَّـت عَلَينَـا بِطَـرْفٍ خَفِـي
و التي انتقل بها الشاعر في حديثه مع البحر من استعطافه إلى حديثه عن حبيبة البحر (الشمس) فيوصيه الرفق و العطف بها بعد عناء يوم طويل لم تنم فيه...
فيرسم لنا الشاعر هنا لوحة الغروب بريشة رسام ماهر جدا ؛
جنح به الخيال لتكون اللوحة عبارة عن شفة شمس تقبل البحر بعد يوم طويل من الإشراق جاءت الآن لتنام...
5- ثم و بعد أن أنهى حديثه مع كل من استعطفهم ليرفقوا بها...
يبدأ حديثه معها (ربة البحر) ربة قصائد شاعرنا
أَيَا رَبَّةَ البَحـرِ جَـاءَ بَرِيـدُ الـ
بِـحَـارِ بِأَدمُـعِـكِ الــذُّرَّفِ
نَـوَارِسُ أَحرُفِـكِ النَّـازِفَـاتِ
تَذُوبُ اشتِيَاقـاً إِلَـى أَحرُفِـي
إذن هو يشعر بحزنها الذي جاءه به بريد البحر، فعلم بدمعها و اشتياقها لأحرفه
أُطِـلُّ عَلَيـكِ بِرَغـمِ الغُيُـومِ
عَلَى البُعدِ مِن تَلِّـيَ المُشـرِفِ
أَرَاكِ عَلَـى مَقعَـدِ الذِّكرَيَـاتِ
كَمَا أَنتِ ، حُسنُكِ لَـم يُوصَـفِ
و كأنه يطمئنها بأنه ما زال رغم كل ما قد يحجب رؤيتها عنه من غيوم و بعد مسافات إلا أنه ما زال يراها على مقعد الذكريات كما هي ؛ بحسنها الذي يبهر شاعرنا...
فهل مقعد الذكريات هنا دلالة على أن ما بينهما من حب ما زال باقيا بقلبيهما فأشار لذلك بقوله (مقعد الذكريات) ؟
أم أنه مقعد أجلس شاعرنا عليه ربة البحر و لم يُجلس يوما غيرها عليه ، فلم تحتل ذكرياته حبيبة غيرها...؟!
ثم يعود شاعرنا ممسكا ريشة الرسام الماهر ليرسم لنا ربة بحره في بيتين هما من أروع ما يمكن أن يكتب شاعر متغزلا بعينيها واصفا إياهما ببحرين، و ثغرها خمر، و شعرها روض من الكستناء، و قدها الأهيف اكتفى بوصفه عندما أكمل وصف شعرها الكستنائي بروض يميس عليه
و لطالما شغلت العينان و الثغر و الشعر و القد خيال الشعراء فيشبعونها وصفا
لكن شاعرنا هنا كفاها ببيتين ربما نابت عن قصيدة :
فَعَينَـاكِ بَحـرَانِ مِـن رَوعَـةٍ
و ثَغـرُكِ خَمـرٌ بِـهِ أَشتَفِـي
و شَعرُكِ رَوضٌ مِنَ الكَستَنَـاءِ
يَمِيـسُ عَلَـى قَـدِّكِ الأَهيَـفِ
لكنه ليس الشاعر الذي يطيل التغزل بالملموس، و هذا ديدن من يحب قلب الحبيبة و روحها و يوليهما اهتماما أكثر فيقول :
صَدرُكِ مَرفَأُ حُلمِـي القَدِيـمِ
و قَلبُكِ يَـا وَاحَتِـي مُسعِفِـي
و حُبُّـكِ مُبتَدَئـي ، مُنتَهَـايَ
بِـهِ أَحتَفِـي و بِـهِ أَكتَـفِـي
صدرها حيث حلمه القديم اتخذه مرفأ و قلبها المسعف له ؛ في دلالة على أنه يعلم أن قلبها ما زال يحبه و أنها لم تزل تحمله حلما في صدرها.
حبها قد تمكله فصار مبتداه و منتهاه، حبها به يحتفي و به يكتفي .
يستمر بمخاطبتها تلك التي تراود ليله طيفا كلما واعدته، فليست التي تغيب طيوفها عنه...
إذن هو -هنا- لا يمتدح وفاء الحبيبة
بل يتحدث عن وفائه هو و حبه الكبير لها ؛ فطيوف الحبيبة لا تزور إلا الحبيب الوفي الذي لا تغيب الحبيبة عن باله
فيرسم لنا لوحة فنية رائعة عن شاعر يستدعي طيوفها ليلا فتحضر قبل أن ينقضي الليل ؛ لتقاسمه وحدته و اغترابه و تحنو على قلبه المستضعف الذي كتب عليه أن يذوق مر البعد و الذي لم تنصفه الأقدار...
و لكنه هنا يرسم اللوحة بطريقة مغايرة ليزيد إبهارنا ؛
فهو كريم معها جدا، و محب لها جدا ؛ فيمتدح حتى طيوف الحبيبة بأنها تفي الموعد لو واعدته و كأن الطيوف هي من طلبت لقاءه !
طُيُوفُـكِ لَـو وَاعَدَتنِـي بِلَيـلٍ
فَلا يَنقَضِي اللَّيـلُ حَتَّـى تَفِـي
تُقَاسِمُنِي وَحدَتِـي و اْغتِرَابِـي
و تَحنُو عَلَى قَلبِ مُستَضعَـفِ
سَقَتـهُ المَقَادِيـرُ مُـرَّ البِعَـادِ
بِكَأسِ الهُمُومِ و لَـم تُنصِـفِِ
و يستمر بالبوح لها عن حبه ووفائه ؛ فيحدثها عن قلبه الذي ما زال لم ينس حبها رغم الجراح النازفات في جنبه
و هنا تستوقفني كلمة (في جنبه) فهي دائما ما تأخذنا إلى معنيين :
أما المعاناة سرا، أو إلى الغدر،
و هنا أستبعد الغدر منها بعد أن حدثنا عن حبها له... إذن فالجراح نازفات في جنبه سرا دون أن يدري بها أحد
و ما يؤكد المعنى أيضا هو البيت التالي فقلبه لم ينس أنها أصل الضياء و اللحن الذي لم يعزف بعد في دلالة على أنها حبيبة منها استمد نوره و يراها لحنا ما زال لم يعزف دلالة على سموها و رقيها في ناظريه ...
فَلَم يَنسَ حُبَّكِ رَغمَ الجِـرَاحِ الـ
عَتِيَّـاتِ فِـي جَنبِـهِ النُّـزَّفِ
و لَم يَنسَ أَنَّكِ أَصـلُ الضِّيَـاءِ
و لَحنٌ إِلَـى الآَنَ لَـم يُعـزَفِ
يخبرها بأن النيل يحدثه عن مقلتيها و يسهب في حديثه عن حسنها و ينكر على النيل ذلك فهو يعرف عنها أكثر مما يعرفه النيل:
يُحَدِّثُنِي النِّيـلُ عَـن مُقلَتَيـكِ
و يُسهِبُ فِي حُسنِكِ اليُوسُفِـي
و يَنسَى مِـنَ الإِنبِهَـارِ بِأَنِّـي
خَبِيرٌ بِمَـا عَنـكِ لَـم يَعـرِفِ
و هنا فقط اسمح لي – كرما- بملاحظة :
وجدت كلمة (عليمٌ) أحلى وقعا من كلمة (خبير)
و لك الأمر طبعا أستاذي.
و يكمل حديث حبه لها و يؤكد على ما قلته من أن الشاعر قد أحبها حبا عفيفا و أنه كان في جل قصيدته يحدثنا عن وفائه و حبه الكبير لها فيخاطبها مطمئنا أنه ما زال يراها بقلبه ؛ و هو محتاج ليراها بقلبه فالتخوم تحول بينه و بينها ليراها بعينيه
و في الوقت نفسه يطمئنها بأنه يعلم أنها ما زالت تحبه
و ما الحزن الذي بين ضلوعها إلا لابتعادهما عن بعض
و يطلب إليها أن تبوح بما فاض من جفنها ؛ فهو يخبرنا بأنها تبكي فراقه بوصف جميل جدا بأن تبوح بما فاض من جفنها ! و ما الذي يفيض غير الدمع ؟!
أَرَاكِ بِقَلبِـيَ رَغـمَ التُّـخُـومِ
و تَحتَ ضُلُوعِكِ حُـزنٌ خَفِـي
فَبُوحِي أَيَـا وَطَنـاً لاْغتِرَابِـي
بِمَا فَاضَ مِن جَفنِـكِ المُتـرَفِ
و يختم رائعته هذه بكل كرم الحبيب عندما يكون عطوفا حنونا مع من يحب فهو يمد راحتي يديه لها لتنام مطمئنة كالطير و أن تمسح دموعها بذاك المعطف العنوان...
و نَامِي كَطَيـرٍ عَلَـى رَاحَتَـيَّ
و دَارِي دُمُوعَكِ فِـي مِعطَفِـي
إذن المعطف العنوان هنا ليس مقرونا بالبرد كما جاء في أول القصيدة فقط،
بل هو هنا يقوم مقام المنديل أيضا لكن شاعرنا اختاره ليكون معطفا في دلالة على أنه يريدها أن تتكأ على صدره و تداري دموعها بمعطفه ؛ راسما صورة جميلة أخرى بدعوة الحبيبة لتضع رأسها على صدره لكنه لم يعلنها صريحة مثلما يفعل الرسام في لوحاته السريالية – الرمز-
و هنا و ليسمح لي أستاذي – كرما – بملاحظة أخرى :
لماذا قلت : (تحت) ضلوعك حزن خفي... في إشارة إلى القلب
و لم تقل (بين) ضلوعك ؟
حيث نعلم أن القلب بين الضلوع ... صح ؟
أستاذي الشاعر المبدع جمال
صار لزاما كلما مررت بقصيدة من قصائدك أن أحاول الدخول للجة البحر الذي منه تأتينا بجميلاتك، لأنها قصائد لا يمكن المرور بها مرورا سريعا، و لأنك صرت تؤسس لنوع من الشعر الوجداني الذي نحبه كثيرا و تكرم قصائدك بصور و عبارات غاية في الجمال...
و هذا البحر الذي صار صديقا ملازما لأستاذي في أكثر قصائده و ربته التي تلهمك الشعر قد صارا بصمة واضحة في قصائد أستاذي...
لك و لحرفك الجميل تحياتي و تقديري
و اعتذاري إن ابتعدت عن المعنى أو قصرت في توجيه الضوء على كل مكامن الجمال في هذه الخريدة.