ظلالٌ مِن رُؤاي
مشاعرُ لا متغيرةٌ تحتَ عدةِ تحويلات
جميلٌ أنتَ في كلِّ المرايا = رشيقُ القَدِّ في كلِّ الزوايا
رقيقُ الهمسِ، مثلَ الضوءِ تَسرِي = إلى ما لا نهايةَ في نُهايَ
فيا بُرهانَ نبضي في شرودي = ويا موجاتِ صوتي في غِنايَ
إذا فاضلْتَ مِن شِعري شعوري = فَكَامِلْ بانضوائكَ مُنحنايَ
وكن للجُزءِ في مَعنايَ كلاًّ = وكن جزءا تَجذَّرَ في الحنايا
وألهمني سؤالا عن جوابٍ = لكونِكَ أنتَ مَبدا مُنتهايَ
أعاني فيكَ كَمْ لغزٍ خَفِيٍّ = ألا يرتاحُ قلبي يا ضَنايَ؟
سؤالٌ ظلَّ يَشغَفُني طويلاً = كبحثِ العارفينَ عن الخفايا
فأنتَ على دروبِ الحُلمِ شمسي = وأنتَ ظلالُ فكري في رُؤايَ
وفي ليلِ انطفائي أنتَ بدري = وأنتَ سراجُ فَرْحي في شَقايَ
***
فَمَنْ أختارُ؟.. قُلْ لي يا هوايَ = سرقتَ السحرَ مِن كلِّ الصبايا
فلا تعتبْ على قلبي، أنا لا = أريدُ سواكَ مِن بينِ البرايا
أنا في العشقِ لا أبغي كثيرا = فحسْبي بسمةٌ أحلى الهدايا
وأَتبِعْ بسمةً أخرى بأخرى = مباحٌ منكَ سَلسالُ العطايا
كثيرٌ منكَ يا عمري قليلٌ = فهَبْ لي ألفَ نَجمٍ يا سَمايَ
هيَ الأكوانُ والأزمانُ فينا = ولا معنى لِعُمرِكَ مِن سوايَ
ولا حسنٌ إذا فارقتَ عيني = ولا قلبي بشِعرِكَ صارَ نايا
تعالَ ابدأ حياتَكَ في حياتي = وذُبْ حتى فنائِكَ في فَنايَ
د. محمد عطية العربي
م. محمد حمدي غانم
8/2/2017
الرجل الذي غازل الرياضيات:
الملابسات المدهشة لميلاد قصيدة "ظلالٌ مِن رُؤاي.. مشاعرُ لا متغيرةٌ تحتَ عدةِ تحويلات":
يمتلك صديقي دكتور مهندس محمد عطية العربي عقلية العالم المختص، لكنه بجوار هذا إنسان واسع الثقافة ذواقة للفن والأدب، وهو الخليط الذي جعله يمزج دراسته الهندسية بعشقه للبرمجة واللغة العربية ليحصل على الماجستير والدكتوراة في حوسبة الصرف والنحو، ومن ثم تعمق في الرياضات المتقدمة التي يعشقها، لاستخدامها في بحوثه عن معالجة اللغات الطبيعية حاسوبيا.. ولدكتور محمد عطية الكثير من الأوراق العلمية منشورة في مجلات عالمية محكّمة، وهو حاليا أحد المحكّمين في هذه المجلات، ومحاضر في المؤتمرات العالمية في مجال تخصصه، بجوار إشرافه على عدد من رسائل الماجستير والدكتوراة (وللأسف هاجر إلى كندا وحصل على الجنسية، كما يفعل كل العباقرة في بلادنا الطاردة للعلماء والمبدعين).. على سبيل المثال: هذا هو رابط مقالاته المنشورة على موقع مجلة IEEE.
وقد أفاجئكم بأن دكتور محمد قد قرأ من تراث الشعر العربي أكثر مما قرأت أنا كشاعر، لكنه لا يصنف نفسه كشاعر، رغم أن له عددا قليلا من المحاولات الشعرية القصيرة.. وقد فاجأني منذ عشرة أيام بهذا البيت الرائع:
جميلٌ أنتَ في كلِّ المرايا = رشيقُ القَدِّ في كلِّ الزوايا
الذي راوده أثناء انغماسه في قراءاته الرياضية المتعمقة.. والمدهش في الأمر أن د. محمد عطية في هذا البيت كان في أسمى تأملاته الفلسفية الرياضية.. فالشطرة "جميل أنتَ في كل المرايا" تمثل فكرة رياضية عميقة، وهي البحث عن دوال لا متغيرة تحت عدة تحويلات:
Invariant functions under specific transforms
أما الشطرة "رشيقُ القَدِّ في كلِّ الزوايا" فهي من الغزل الرياضي أيضا، لكن من باب هندسة المقاييس والأبعاد Geometry، كما أن فيها إحدى رؤى ميكانيا الكم!
الحقيقة أن هذا البيت لا يخرج إلا من عقل جميل (كما عنوان الفيلم الرائع Beautiful Mind).. عقل يستطيع تحويل فلسفة العلم إلى بيت شعري بسيط رائق رائع.. لمثل هذا قلت له في حماس إنني سأكمل هذه القصيدة، وسأحاول أن أحذو حذوه، بتضمين معاني الأبيات إشارات إلى أفكار رياضية وهندسية (سيلحظها المختصون، وسيمر بعضها على القارئ العادي دون أن تخل بمعنى الأبيات، التي ستبدو أبياتا صوفية أو فلسفية).
وقد أضفت 10 أبيات، وأريتها له بالأمس، فأبدى رغبته في إضافات أخرى ومن خلال النقاش ولدت 7 أبيات أخرى، حتى خرجت هذه القصيدة في هذا الشكل، الذي نرجو أن يروق لكم:
ما كنتُ أَحسَبُ يومًا أن يموتَ أبي = وهمٌ بعيدُ المَدَى، ما كنتُ أَعتبِرُ
مَقدورُ ربّي وليسَ القلبُ معترضًا = للهِ نَمضي كما يَقضي لنا القدرُ
لكنَّهُ عالَمي مُذْ أنْ رأى بصري = هل جا ببالِكَ يَفنَى الشمسُ والقمرُ؟
كمْ قالَ لي: "سأموتُ، العمرُ يَسرقُنا = فاعملْ لنفسِكَ ما تَرضَى وأفتخرُ"
لكنّني لم أكُنْ بالقولِ مُكترثًا = لا لن يموتَ أبي مهما مَضَى العُمُرُ
حتّى وأنفاسُهُ تُفضِي لبارئها = ما كنتُ ودّعتُهُ والدمعُ يَنحدِرُ
كانوا جميعا يَرونَ الموتَ يَخطَفُهُ = وكنتُ أَنهَرُهمْ: لا ليسَ يُحتَضَرُ
والعقلُ يُدركُ ما بالقلبِ أَجحدُهُ = لا لنْ يَموتَ أبي والنهرُ والمَطَرُ
حتى مَضَى في هدوءِ الليلِ مُرتحلاً = مُستكشفًا دربَ مَن مِن قبلِهِ عبروا
والنورُ في وجهِهِ كالبدرِ مُكتملاً = لِسِدرةِ المنتهَى قدْ شارفَ النَّظَرُ
فخِلتُهُ نائمًا كالطفلِ في حُلُمٍ = حتما سيصحو، دُعوني الآنَ أنتظرُ
قد غابَ عن ناظري والقلبُ مَسكَنُهُ = هل يَحسبون فَنَى في كِلْمةٍ سَطَروا؟
لا لن يَموتَ أبي في مُهجتي أبدًا = ذِكراهُ في خاطري كالعطرِ تَنتـشرُ
والجِذرُ يَحيا ولو بالأرضِ غَيْـبَتُهُ = ما زالَ يُخبرُ عنهُ الزَّهرُ والثمرُ
يا ربِّ فاغفرْ لهُ، واجعلْ له نُزُلاً = مُكَرَّمًا، مُتَّكاهُ الرَّفْرَفُ الخُضُرُ
محمد حمدي غانم
2/4/2017
* متكأه الرفرف الخضر: إشارة إلى قوله تعالى في صفة أهل الجنة: "متكئينَ على رفرفٍ خضرٍ وعبقريٍّ حِسان".. الرفرف جمع رفرفة وهي البساط أو الوسادة، وعبقري جمع عبقرية وهي الثياب المزخرفة المنقوشة.
في ليلة 26 رجب تحل الذكرى الثانية لوفاة أبي الحبيب أ. حمدي كامل غانم، رحمه الله وغفر له وجعل مثواه الجنة.
أَودَى غرامُكِ بي يا سرَّ مأساتي = يا حلمَ عمريَ يا أقصَى استحالاتي
ماذا فعلتُ لكي أَصْلاكِ في لغتي = شِعرَ العذابِ؟.. أتَغتالينَ لذاتي؟
يا كلَّ ذِكرى سَرَتْ في الرُّوحِ تُشجنُها = يا طعمَ حزنيَ مُنذُ انْدَحـْتِ في ذاتي
هل لي جمالُكِ مخلوقٌ لأعشقَه؟ = أَسعَى لأُسعدَه من بينِ أناتي
لا غَروَ تيهيَ في عينيكِ ساحرتي = يا نجمةً قد مَحَتْ كلَّ المجراتِ
والثغرُ لو أنّني يومًا أُكلِّمُهُ = عَصَرْتُ فاكهةً، أَسْـكَرتُ كاساتي
والحسنُ ويلِيَ ما أقسَاه عذّبني = يَبكي على شَجَني بدرُ المساءاتِ
فاضَ الحنينُ على قلبي ليُغرقَه = والليلُ شابَ وما كفّتْ مناجاتي
مَرَّ الزمانُ وما فارقْتِ أُمنيتي = دارَ الزمانُ، أنا في نفسِ مأساتي
لو كنتُ عندَكِ أغلى كنتِ ساقيتي = مِن نهرِ سحرِكِ ما يَروي صباباتي
لو تعلمينَ: يَغارُ القلبُ فاتنتي = لو تَسكنينُ دَمِي في فَيحِ جمْراتي!
إنّي أغارُ ولا يَعنيكِ في شَغَفي = أنّي أريدُكِ يا أحلَى معاناتي
إنّي أغارُ وأنتِ الآنَ قاتلتي = في كلِّ عينٍ رأتْ أَشهَى الجميلاتِ
تَهوَينَ نفسَكِ، لا تَهوَينَني أبدا = قلبٌ من الصخرِ لم يَسمعْ شِكاياتي
لو تَذبُلينُ غدًا واغتالني ظَمَئي = ستُحرمينَ بهذا الذنبِ جناتي
مهما نأينا فقلبي في هواكِ أبٌ = يدعو لقلبِكِ يا أبهَى الأميراتِ
سأظلُّ أَهوِي إلى عينيكِ آسرتي = كونٌ من الطُّهرِ قد أفضَى لنشْواتي
إني عشقتُكِ يا عمري بلا ندمٍ = أُهدي لقلبِكِ ـ لو يَعنيكِ ـ غُنواتي
الشوقُ طالَ وهذا الهجرُ عذّبَنا = لم تُسعدي لحظةً بالقربِ نَبْضاتي
نصفانِ مزّقَنا عن بعضِنا ألمٌ = لا شيءَ يُكملُنا بينَ المتاهاتِ
العمرُ باعَدَنا والدهرُ غيّرَنا = لم يَبْـقَ منّا سوَى عشقي وآهاتي
ماذا جنيتُ لكي أهواكِ يا ألمي = حتى تصيريَ لي أغلى الحبيباتِ
في التوِّ حينَ أراكِ الشِّعرُ يَغمرُني = أُهديكِ يا مُنيَتي بالعشقِ أبياتي
لو بالغرورِ أنا أُسميكِ جاريتي = ناداكِ رغْمِيَ نبضُ القلبِ: مولاتي
مهما الزمانُ مَضَى والشوقُ لوّعني = للكونِ عن حبِّنا أحكي حكاياتي
في الأُنسِ، في وَحشَتي، في الصَّـفوِ، في شَجَني = أهواكِ يا فتـنتي في كلِّ حالاتي
محمد حمدي غانم
8/1/2017
* تنويه:
انتبهت بعد أن كتبت هذه القصيدة أنها جاءت على نفس وزن وقافية قصيدة "أنا وليلى" رائعة الشاعر العراقي حسن المرواني
والتي غناها كاظم الساهر (ولست من عشاقه)، ونظرا لأن القصيدتين تحملان نفس التجربة العاطفية تقريبا، فسيبدو أنني كنت
أعارض أو أباري المرواني، ولا عيب في هذا، لكنه فعلا لم يكن متعمدا مني!