إن الملامح التى تبيح أسرار الذات المعنوية تكسب الوجه جمالاً وملاحة مهما كانت تلك الأسرار موجعة وأليمة..
أما الوجوه التى لا تتكلم بصمتها عن غوامض النفس وخفاياها فلا تكون جميلة مهما كانت متناسقة الخطوط متناسبة الأعضاء.
فالاقتراب الشديد من الجميع قد يغرس أشواكهم فينا ويغرس أشواكنا فيهم.. والبعد عنهم أيضاً يفقدنا الأمان والدفء ويجعل الحياة قاسية ومريرة، لهذا فنحن فى حاجة دائمة إلى أن نتلامس مع الآخرين.. ولكن بغير التصاق شديد يفتح أبواب المتاعب.. ويحجب الرؤية ويشوّش السمع.. لأن القرب الشديد يضيّق مدى الرؤية فى حين أن الاقتراب عن بعد أو الابتعاد عن قرب يجعل الرؤية أوضح والسمع أصغى.. فالإنسان فى حاجة إلى رفقاء يبثهم شجونه ويهتم بأمرهم ويهتمون بأمره، لكنه يحتاج أيضاً إلى أن تكون له ذاته الخاصة التى لا يقترب منها إلا الأصفياء وحدهم.. والإنسان يحتاج أيضاً إلى أن يحسن الظن بالآخرين لكى تستقيم الحياة لكنه يحتاج أيضاً إلى أن يكون حريصاً بعض الشىء فى علاقاته بهم، فلا يمنح ثقته الكاملة إلا لمن عرفه جيداً وامتحن إخلاصه وصداقته وقيمه الأخلاقية.
إن أثرى ما عشته لم أعرفه ولم أدركه إلا بقوة المخيلة، وما انقضى منى راح جلّه فى التمنى..
لقد أوصدت دونى أبواب بلا حصر.. حالت وصدت.. طرقت برفق.. وأحياناً صرخت..
ولم يأخذ بيدى إلا تخيّلى ما وراءها، واجتهادى فى طى الفراغات العلى. بعضها فتح لى،
اجتزته وعبرت عتباته، فلم ألق إلا الحسرة وبواعث الآهات، ذاك نثارى.
العقل يتكيّف.. يود لو يعبئ سجنه، عرشه بإنجازات عظيمة، وأن ينقش على الجدران مآثر بطولية، ويرسم على السلاسل أجنحة الحريّة.
القلب لا يتكيّف.. ثمة أياد تطرق أبواب سجنه من الخارج، وأصوات عشق تتسرب إلى مسامعه عبر الريح، فيستجيب القلب وهو مفعم بالأمل، مفجراً السلاسل، وفى إحدى توهجاته تبدو له السلاسل وقد تحوّلت إلى أجنحة.. لكن سرعان ما يسقط القلب مرة أخرى دامياً وقد فقد الأمل وبدأ يتملكه الخوف الكبير..
اترك وراءك القلب والعقل وتقدم إلى الأمام واخط الخطوة الثالثة.
عليك أن تنجو من البساطة الفجّة للعقل الذى ينظم ويأمل فى السيطرة على الظواهر.. عليك أن تنجو من رعب القلب الذى يبتغى ويأمل العثور على الجوهر
وكان مع كل خطوة يشعر أنه يدفع عنه الماضى كما يدفع الواصل إلى الشاطئ مركبه الشراعى الصغير ليبتعد به عنه، ولكن دون جدوى.. وكان يُجرى سَبرُه الدقيق وتبصّره بتصميم، وراح يصبو إلى الحياة الجديدة بكل تحدٍ وحماس منطو على المغامرة، وقد عزم على أن تكون حياة بعيدة عن أكسير الحذر وقصر النظر بل بالأحرى ارتقاءً شجاعاً نحو العلى. وبعد ذلك استأذن غسق الشباب العذب بالرحيل، ربما بألم يزيد عما يحدث مع بقية البشر. وها هو الآن واقف فى وضح النهار، عاجزاً ومتأخراً عن زمنه، وكان يعنى بهذا أنه لن يضيّع بعد الآن ساعة ثمينة واحدة.
ومع أننا قد ننجح لفترة من الزمن فى إغلاق الباب فى وجهه، فإن الحب سيجد طريقه.. مع أننا نصبح باردين ونتصلب كالمعادن، لا نستطيع أن نبقى غير مبالين وخامدين إلى الأبد.. لا شىء يموت حقاً، فالموت مختلق دائماً.. الموت ببساطة هو إغلاق الباب.. لكن ليس للكون أبواب.. بالتأكيد لا توجد أبواب لا يمكن فتحها أو اختراقها بقوة الحب.
إن الحديث عن الحب والمودّة والامتنان يفقد معناه نتيجة لكثرة الاستعمال، إنه مثل الأحجار الكريمة التى لن تكون كريمة إذا كثر تداولها واستعمالها وتراكمت حتى صارت مثل حجارة الطريق، إن الإسراف فى الكلام يضر بهذه العواطف ولكن... الامتناع عن الكلام امتناعاً دائماً يصيبها بضرر أكبر، وإذا كان التعبير عن العواطف يحتاج إلى الصمت فهو يحتاج أيضاً إلى كلام.. وما أكثر اللحظات التى نخذل فيها أصدقائنا عندما نواجه موقفاً يستحق الشكر فنقابله بصمت لا يحمل تأثراً ولا انفعالاً بحجة أنهم يعرفون عواطفنا ولا يحتاجون مثل الغرباء إلى تأكيد أو برهان على العواطف الدافئة التى نحملها لهم أو تعبير عن هذا الشعور بالامتنان لما قدموه لنا من عون ورعاية.
أحمد إبراهيم الفقيه - العودة الدائمة إلى خانة الصفر
نحن بحر من ألسنة اللهب الصغيرة.. كل شخص يشع بضوئه الخاص وليس هناك لسانا لهب متشابهان.. ثمة ألسنة لهب كبيرة وأخرى صغيرة من جميع الألوان.. ألسنة لهب بعض البشر هادئة بحيث لا تتأجج حين تهب الريح، بينما يمتلك آخرون ألسنة لهب وحشية تملأ الجو بالشرار.. بعض ألسنة اللهب الغبية لا تحرق ولا تضيء، لكن ثمة أخرى تفيض بلهب الحياة بحيث أنك لا تستطيع أن تنظر إليها دون أن ترف عيناك، وإذا اقتربت منها تضيئك.
فى هذا العالم، دائماً يوجد شخص فى انتظار آخر، سواء أكان ذلك بمنتصف الصحراء أو بمنتصف مدينة كبيرة. حين يمران أحدهما بجانب الآخر وتلتقى أعينهما، يفقد الماضى والمستقبل أهميتهما، والشىء الوحيد الذى يبقى موجوداً هو هذه اللحظة والتأكد الشديد أن كل شىء تحت الشمس كتبته اليد نفسها، اليد التى توقظ الحب، والتى تخلق توأم روح لكل من يعمل ويستريح ويبحث عن الكنوز تحت الشمس.. بدون هذا لن يكون لاحلامنا البشرية معنى.