مضيتُ بدربهِ في الليلِ مَرَّه
وأهرقتُ الخواءَ بدلوِ نبرَه
.
مضيتُ وكانَ في ظنّي التباسٌ
بأنَّ القلبَ لا يُروى بقطرَه
حوار عميق افتتح به الشاعر/ة قصيدته حيث اللافت هنا استخدامه في مطلع البيتين لذات الكلمة وهي كلمة ( مضيتُ ) كانطلاقة لــــ بداية هذا الحوار الداخلي و المعمق وقد حدد/ت مع بدايته وهي منذ زمن مضى .. وحدد التوقيت فكان "ليلا " و ما يميز الليل (الظلام ) الحلكة كصفة تخطر على كل من يستمع لهذه الكلمة ولكن هو أيضا يدل على سمات ترافق المسامر وهي الأرق و القلق و ميله للتشاؤم .. اليأس وأن طريق المستقبل مسدود .. و من ثم حدد حالته التي وصفتها كلمة "ارهاق" وهذا الإرهاق نفسي شديد انعكس لـــ ثرثرة داخلية على "الفراغ" بينما الظاهر هو صمت مطبق .. (وما أجمل جمع " الثرثرة مع الصمت في صورة واحدة) .. ويبدأ هذه الثرثرة بالتباس و ظن أن القلب لا تكفيه قطرة حب و لا ينبض بهذا القدر ليستمر بالخفقان
اقتباس:
وكنتُ أخالهُ تسويفَ حِينٍ
هنيهاتٍ تلوّنها المسرَّه
مسامرةٌ تواسي لؤمَ ضجري
وتسرقُ من شقائي ما أسرَّه
صحبتُ اليأسَ عاقرني سنيناً
وألبسني يبابُ العشقِ قبرَه
كماعتدتُ الحياةَ بلا حياةٍ
وآلفتُ النسيمَ بألفِ حسرَه
و يستمر الشاعر/ة في عرض معاناته و يستمر بـــــ ظنونه فقد ظن أن هذه المماطلة نهايتها خروج من هذا الفراغ و الوحدة وولوج إلى السعادة وما لجوءه للمسامرة إلاَّ ظنا منه/ها أنها السلاح الفعال ضد الملل و ما يجره من آفات وترجيحه لاحتمال أن يقضي على شقاءه و كل ما تراكم في أعماقه طويلا ..فقد كان اليأس لزمن رفيقه و الذي جعل من شعاع الأمل يبدو سرابا.. و قد استخدم الشاعر كلمة ( اليباب ) و التي تدل على {القحط و الجفاف والخواء و الخراب ..} وكل هذه المعاني تصب في كأس واحدة وهو اليأس وعدم توقع الأفضل.. و قد استخدم هذه الكلمة للتعبير عن العشق الذي استنفذه الخواء وكان الانكسار أول نتائجه.. لذا نجده في البيت الذي يليه استخدم الكلمة في حالتين الإيجاب و السلب ( الحياة - بلا حياة ) ليخبرنا أنه هو مستسلم لحالته فهو يقرر أنه ميت فعليا لكنه لازال على قيد التنفس ثم جعل من النسيم شاهدا على زفراته الملونة بالحسرة .. و يتابع قائلا :
اقتباس :
مضيتُ إليهِ ما كانَ ابتغاءً
نوايا البختِ شاءت وهْيَ حُرَّه
يحاورني فيندهشُ انشداهي
وأدمنُ غيثهُ الفوّاحَ عطرَه
.
يسيلُ الهمُّ من آماقِ نفسي
فيشربُ قهوةَ الإصغاءِ مُرَّه
و يعود الشاعر بنا لنتوقف عند تكراره لــــــ كلمة (مضيتُ ) و التي تشير إلى استمرار الحال على ماهو عليه..ولكن هنا يؤكد لنا أن هذا المضي لم يكن اختياريا و لاهنالك مقصدا منه ..لكن مشيئة ( البخت ) و نواياه كانت حاضرة وهي الحد الفاصل لكل من يختاره القلب .. فيكون حوار الذات مستبدا ..يخطف الدهشة ..ويدمن هطول المشاعر والتي يفوح منها عطرا جميلا ..و لكن التردد سمة المهموم و قناعة من سطى اليأس المعرش على منافذ وجدانه .. لذا يعود الشاعر/ة ليصف ذلك فيجعل مصب الدمع/النفس منبعا لسيل الهموم حيث جعل النفس مكان العين و تقوم بوظيفة الإدرار لأنها هي التي تشعر بالمعاناة و تتحسس الألم فتصب أنّات .. فيكون مجبرا على شربه/الإصغاء "حيث شبه مذاقه بمرارة القهوة" ..و كلنا يعلم أنه رغم ما للقهوة من طعم مر إلا أننا في ذات الوقت نلحظ تلذذ شاربها و نرى كيف يتحول هذا التلذذ لإدمان و هذا ما قصده الشاعر ( أن العشق مهما كانت فنونه وجنونه وعذابه وشروده و ألمه وأناته .... إلخ ) له متعة في مكان ما ندمنه مهما حاولنا التبرؤ منه أو الإحجام عنه .. صياغة غاية في الجمال و تشبيه بليغ لاحساس واقعي
اقتباس:
يحدّثني فيُنصتُ صوتَ صمتي
وتورقُ في قفارِ التّوقِ جمرَه
وكنتُ أقولُ لي ماذا دهاني
ففخُّ العشقِ هذا محضُ حُفرَه
.
أأهربُ؟ كيفَ أهربُ من شَغوفٍ
يلاينني فأردعُهُ بغمرَه
و يستمر حوار الذات / القلب .. و شاعرنا هنا كالطفل المطيع مستسلما للإصغاء و ردة فعله حددها بكلمة ( الصمت ) ليورق هذا الصمت الــــــ "لاشيء "ومن ثم يتحول لجمر يُلهب جوفه ولا يستطيع تجنبه ..حتى لو أراد وهنا ذكرنا الشاعر/ة بالفراشة التي رغم حالة الاحتراق التي ستنتهي بها كلما اقتربت من الوهج ..لكنها تستمر بالرقص أمامه بل ومن ثم تقتحمه و يكون فناء مصيرها .. لذا نجد الشاعر/ة لم يتوقف عن دهشته لمن هذه الحالة التي آل إليها ( فــــــ رغم أنه يعلم مصيدة العشق إلا أنه سقط فيه و لم يستطع تجنبه ..ولذا يقول:متساءلا ( كيف يهرب ) وهو راغبٌ مقدمٌ تواقٌ لخوض غماره.. بل عبر عن هذا الخنوع باستخدامه كلمة ( يلاينني ) لــــ تعبر هذه الكلمة عن الليونة و المرونة و الرضوخ و التماهي و قبول احتلاله وطواعية
اقتباس :
مضيتُ وليتني ألجمتُ خطوي
وغالبتُ الهوى وأمنتُ شرَّه
علقتُ بليلهِ حتى استفاقت
عصافيرُ النخيلِ بحِجرِ تمرَه
و يتابع الشاعر مضيه .. نادما متحسرا حتى تمنى لو تراجع و توقف بل الكلمة التي اختارها كانت أقوى من ذلك وهي كلمة " ألجمت " و كلنا يعلم ما تعني هذه الكلمة و لمن تستخدم .. يشير الشاعر هنا "لغياب العقل" استبداد المشاعر و يسيطر القلب ..لذا غلبه العشق و انتصر عليه ولم يأمن شرور نتائجه .. واستسلم لكل ارتداداته و أحزانه ..فقد علق في لجة شراكه حتى بدا له ملامحا لمخرج ذات انتظار .. وقد استخدم الشاعر بطريقة بديعة لهذا الفخ وكانت كلمة ( الليل ) حاضرة لتعبر عنه .. وبزوغ خيوط الأمل من خلال صورة ( حتى استفاقت العصافير النائمة في كنف النخيل ) فكلمة ( استفاقت) تدل على الزمن وهو بداية جديدة ليوم جديد وما بعد طلوع الفجر وهو بذلك يكون للشاعر/ة بداية الفرج .. صورة غاية في البهاء فعلا
.
اقتباس :
قطعتُ الوقتَ كي أحظى بأنسٍ
فباغتني بسكّينٍ وشفرَه
وجاءت الخاتمة مستلهمة من الحكمة المعروفة حيث أن الوقت دوما يسرقنا ولا نشعر بمضيه إلا بعد فوات الأوان .. وهكذا قضى الشاعر وقته متأملا بأنيس و رفيق درب .. لكنه فوجئ بأن الوقت مضى و انقضى و لم يحصل على شيء .. و جاءت القفلة ذات ايقاع خاطف تخطف الذائقة و تجعلني أقول : أن العنوان إذا وضع قبل هذا البيت فقط لكان كقصيدة كاملة ......
القصيدة التي بين أيدينا تتماهى مع مخيلة المتلقي و ما تمليه من ارهاصات نفسية .. و خاصة أن هذه التجربة التي مر بها الشاعر/ة هي معاناة مشتركة بينه و بين الكثيرين .. و استطاع الشاعر/ة الخروج من التموضع في الذات ليُسمع صوته بعد اطباق الصمت و مضي العمر .. فكان الأسلوب الفني الجميل حاضرا رغم مداعبة اليأس لجزئياته .. وكان الصمت هو اللغة التي لا يسبر غورها إلا العشاق وقد قال الشاعر أحمد شوقي ذات وصف لهذه الحالة " أن لغة الكلام تعطلت " و قد تعانقت هنا الحروف لتخرج عن هذا المارد " الصمت " و توصل المشاعر بكل بهاء للقلوب التي تقرأ بعيون من أمل رغم التشابك الشديد التعقيد بين القلب و العقل وما يعكسه من مؤثرات..نعم إنه فنون العشق ..
ملحوظة :
اعتذر عن المشاركة في نقطة ذكر اسم صاحب هذا النص الجميل لأن لي رأي خاص في ذلك : أنه من شبه المستحيل في الشعر و ليس في النثر معرفة ناظم القصيدة لأسباب عدة أذكر بعضها أنّ ما يفرضه نظم الشعر من قواعد على الشاعر عليه الالتزام بها و ما يبيحه من جوازات تجعل من الشاعر لا يسير على وتر واحد فغرض النص و قافيته و الافكار التي يتطرق لها كلها تجعل من كل قصيدة تختلف عن الأخرى مبنى و معنى .. و كم مثلا بعد قراءتنا لقصيدة قلنا هل فعلا فلان من نظمها لأنها أجمل من سابقاتها أو لأنها أقل جمالا .. عامل الدهشة هذا يؤكد ما ذكرته و إن اسخدم الشاعر مثلا ذات الألفاظ في عدد من القصائد لا بد أن يكون استخدامه لها لبناء صور مختلفة و إلا يكون الشاعر يكرر نفسه ويصبح قلمه عقيما.. ربما العامل الموحد في حكمنا على شعر أي شاعر هو الجودة حيث نجد الشاعر المتمكن من أدواته يبدع في كل نص شعري و في أي غرض ومع أي بحر و أي قافية .. و شكرا لكم