إنه الغيب ملقى فى ظلام قاع بحر عميق، والسلسلة تربط سفينتى غائصة مختفية توهمنى أن لا حد لطولها، فحياتى حرة طليقة الحركة كحياة بقية السفن التى تحرث هذا البحر.. إذا أحسست بقلقلة قلت إنها من عبث الأمواج، تتأرجح على يد ثابتة، أرفض أن أدرك أنها من فعل هذا الغيب الذى يترصدنى - دون أن أراه - من بعيد لبعيد، إذ هو الذى يشدنى إليه شيئا فشيئا، سأقترب منه قليلا قليلا حتى يكون اللقاء، حتى تتم الصدفة.
مصفوفة حقائبى على رفوف الذاكرة.
والسفر الطويل..
يبدأ دون أن تسير القاطرة!
رسائلى للشمس..
تعود دون أن تمسّ!
رسائلى للأرض..
تُردّ دون أن تُفضّ!
يميل ظلى فى الغروب دون أن أميل!
وها أنا فى مقعدى القانط.
وريقة.. وريقة.. يسقط عمرى من نتيجة الحائط
والورق يتساقط
يطفو على بحيرة الذكرى، فتتلوى دوائرا
وتختفى.. دائرة.. فدائرة!
نجوم الليل.. ظلمة البحر.. والهدير الذى يرتقى طبقات السكون.. تململ الترقب. الاحتمالات. الزفرات المخنوقة فى مضيق الحلق. تلوب. ليس هذا أوانها.. تبقى حيث كان لزاما عليها أن تظل.. فى الليل، تعود الكائنات إلى انغلاقها على ذواتها.. تختفى بين طيات براعمها لتمارس طقوس الحوار السرى.. تلتطم الأحاديث الداخلية وتتشعب.. لا تتعدى الواحد.. يسافرون معا وكل فى يده حقيبته الخاصة. أشياؤه الخاصة. أسراره المخبوءة.. تتجمع الوجوه، والقامات، والعيون المشتعلة بشرارات الروح.
لا يفهم بعث الموتى غير من يعرف الحب.. الحب ذاته بعث من موت العادة وملل الألفة وانعدام المعنى.. وحين يخفق بالحب قلب المخلوق يبعث ما كان ميتا فيه.. كيف يؤمن المخلوق ببعث القلب وينكر قيامة الجسد؟ نعم.. فى الحب لحظة يستدعى فيها الأحد عباده فينهضون من تراب النوم.. أى قدرة هذه التى تستطيع استدعاء أحلام التاريخ من عباءته الترابية غير قدرة الحب؟ تعالى الله وتقدس اسمه
القدر الذى سبق فعلم كيف يكون الرجل طفلاً وكيف يكون زهوقا، وكيف تتقاذفه المطامع فيخوض ميادين الشقاق والنزاع حتى لتكاد تتحوّر شخصيته، فلا يتمكن من وقاية النفس الطاهرة من تلاعب الأهواء وإن أرغمها على الخضوع لناموس الكيان.. ذلك القدر هو الذى يأمر نهر الحياة فى صدرنا استطراد السير إلى الأمام.. فننسى حركة ذلك النهر الدفين وإن لازمناه وهو يجتاز عرض البحار وكنا مثله مسوقين على الدوام
أحياناً كانت حياتى تفتح عينيها فى الظلمات.
عندما كنت أرى حشودا عمياء مضطربة تمر فى الشوارع بحثاً عن معجزة.
كنت أقف لا مرئياً.
كمثل الطفل عندما ينام مرتعباً
مصغياً إلى خطوات قلب ثقيلة.
طويلاً، طويلاً إلى أن يقذف الصباح خيوط الضوء فى الأقفال وتنفتح أبواب الظلمات.
أيتها السلحفاة! أيتها السلحفاة العجوز.. الله وحده يعلم كم صار لك من السنوات على هذه الأرض، وكم ستعمرين بعد! فلماذا ستستعجلين فى سيرك؟ أما أنا فعمرى ربيع واحد. بضعة أشهر تستضيفنى فيها هذه الدنيا الجميلة، أستسلم للموت بعدها. لذلك فأنا لا أريد أن أضيع لحظة واحدة من عمرى.. نعم أنا مجذوبة.. مجذوبة من عشق هذه الدنيا الجميلة الندية اللطيفة، وهذا الربيع الفردوسى الرائع.. لا أستطيع أن أكون مثلك فأضيع أيامى يوماً إثر يوم.. نعم أنا مجذوبة أيتها السلحفاة. إنها جذبة الحياة. فسيرى فى طريقك.. لقد أهدرت معك كثيرا من وقتى القليل.
إن النفس الحزينة المتألمة تجد راحة بانضمامها إلى نفس أخرى تماثلها الشعور وتشاركها بالإحساس مثلما يستأنس الغريب بالغريب فى أرض بعيدة عن وطنهما.. فالقلوب التى تدنيها أوجاع الكآبة بعضها من بعض لا تفرقها بهجة الأفراح وبهرجتها. فرابطة الحزن أقوى فى النفوس من روابط الغبطة والسرور. والحب الذى تغسله العيون بدموعها يظل طاهرا وجميلا وخالدا.
فى وسط هذا السكون العجيب المخيم حمل إلىّ نسيم الليل الهادئ صوت موسيقى ناعمة هادئة، تنبعث فى أجواء الفضاء كأنها نفس من الفردوس أو نغمة من السماء، وأحسست بالنغم الجميل ينفذ إلى نفسى فى لين لظاها كأنما هى كف رطبة ندية تمسح بحنان رأس محمومة التهب لظاها واحتدم سعيرها.
وكان اللحن يصل إلى أذنى خافتا كالضوء الشاحب.. والشعاع الكليل والقبس الواهن.. كان يصل إلىّ مترنحا متقطعا، ذوّب النسيم أوصاله، ورقق أعطافه، فانساب إلى النفس كأنه فتات من أصوات الملائكة، أو كأنه عطر لنغم فياض أو مسحوق للحن طرب، انتشرت ذراته فى الهواء.. وتسللت إلى الصدور.. واستقرت فى الحنايا.. واختلطت بشغاف القلب.
كنت مملوءا بسعادتى الخاصة.. متوافقا مع حفيف أنفاس البحر، وعبير الأرض، والموسيقى التى تعزفها أشجار الليل، وفضة الزبد الذى يصنعه الموج، مأخوذا بضوء نجمة بعيدة تتألق فى وحدتها على حافة الأفق.. اعتبرتها عاشقة مثلى، فأنشأت معها تواصلا حميما.. منتشيا بهذه اللحظة المبهجة، التى تأتى وكأنها مقطوعة الصلة بما مضى أو بما سوف يأتى. لحظة تكتفى بذاتها، وتزهو بامتلائها، حتى تهيأ لى وكأن هذه اللحظة على عكس مثيلاتها من اللحظات الاخرى، لن تموت وتتلاشى فى الفضاء اللانهائى، لأنها بمثل ما كافأتنى بهذه النشوة، فسأكافئها بأن أحملها دائما معى.