لكل فنان عالمه المستقل المبتكر.. وما تعدد تلك العوالم الفنية واختلافها إلا المظهر الأسمى لغريزة البقاء تهددها الطبيعة بالفناء، فتستفيق فيها إرادة التفوق، فتجتهد فى التغلب على هذا الفناء بمضاعفة الشعور بالحياة عن طريق الفن وهو يبدع للناس حياة جديدة عليا.
ما من أحد استطاع أن يعرف حياة الشوارع ليلاً مثله.. إنها معرفة ألفة وصداقة، لا معرفة ضرورة.. إنه يمشى بغير هدف.. يتمهل فى أحشائها بغير استعجال للنور.. ويتباطأ فى الخطى دون رغبة فى وصول.. وكلما وجد نفسه الصاحى الوحيد وسط الشوارع الساكنة خيل إليه أنها لا تعرف أحداً غيره. وكل تلك البيوت النائمة والحوانيت الهامدة إنما هى أطفال تهجع فى أحضانه الساهرة.. وهذه التماثيل الواقفة تخطب فى الظلام لجموع وهمية، هو وحده الذى يستمع إليها.
لكننى فى اللحظة التى فكرت فيها أن أفرّ، أن أهرب حاملة كل الشجن.. أن أحرث كل التراكمات المزروعة حول أيامى، المحيطة بحياتى كأشجار غابات.. جافة تخدشنى أفرعها.. وتزوينى سيقانها تحت أكوام الأوراق المتساقطة.
اليوم.. سأفرغ الشحنة.. سأجعل عواطفى المخبوءة تحت جلدى تنطلق.. سأتمرد على الركود والبلادة.. سأمسح الوجع الذى استفحل دون رحمة.. سأذهب كشرارة تعرف أين تسقط وأين تضىء.. هناك.. ذهنى يسبق جسدى.. أتبعه آكلة المسافات.. قدماى طائرتان ولى أجنحة قوية.
ليس من قدير بئيس فيكم إلا وثم من هو أقدر منه وأشد بأساً.. وليس من غالب بالقوة اليوم إلا وهو مغلوب بها غداً، وهب القوة انتهت إلى أحدكم واجتمع له الحول والحيلة فهل أعطاه الدهر أماناً على نفسه أن لا تقهره الكثرة أو المكيدة يوماً فلا ترعى فيه عهداً لإحسان ولا ذماماً لحق؟ وتذره ينادى العدل فلا يجده، ويناشد قاهريه الذمة فلا تنجده، فإذا نسى الرحمة وهو قادر عليها فبأى وجه يذكّر بها سواه وهو محتاج إليها؟
إنه صمت داخلى، أشبه بليل كونى لا تحد رحابه. صمت مفعم، هائل.. قبل سنين كثيرة كتبت شيئاً عن أجراس الذاكرة وهى تجلجل فى كهوف جوفية، صامتة صمت الزمن السحيق الذى يلف تاريخ الإنسان، هذا التاريخ الصارخ الهادر. صمت ملىء بالذكرى والرؤى. بأربعين سنة من جلجلة الحناجر، أربعين ألف سنة من الصياح والعشق والغضب.. والرؤى مهمة، مهما تكن غامضة.. كم من الناس عبر العصور أصروا على رؤاهم، بل قبلوا بالاستشهاد من أجل ما يرون من رؤى.
ما أعظم كلمة الله حين تتردد أصداؤها بين الأغوار والجبال.. تحس وأنت تقول الكلمة أن الجبال تسجد والشجر يسجد والنجوم تسجد، والصحراء كلها طوع أمرك.. وتحس أنك تسند ظهرك لجدار من الأمن الذى يستحيل أن يصيبه من الخوف شرخ، وتحس أنك قادر.. وغير قابل للموت!
والإنسان إذا وُجد فى حضرة الجماعة وكان عليه أن يدلى برأى فى موضوع فإنه فى العادة يقول ما تواضع الناس على قوله. يفعل هذا احتراماً للجماعة أو خوفاً منها، أو استسهالاً، فقد يجره رأى مخالف إلى نقاش قد يخرج منه مهزوماً مهيض الجناح.. قليلون فقط هم الذين يملكون آراء شخصية، وأقل منهم أولئك الذين يستطيعون الجهر بآرائهم تلك دون وجل فى حضرة الناس، ونادرون هم أولئك الجريئون الذين يستطيعون الذود عن آرائهم إذا هوجمت، وأقل القليلين هو من تتفق له الجرأة والمنطق فيستطيع ليس فقط أن يعبر عن رأيه ويدافع عنه إذا هوجم، ولكنه يستطيع فوق هذا إقناع الناس به. نادرون جداً أولئك الناس، ولكن هذا لا ينفى الحقيقة، والحقيقة أن كلا منا حكيم فى حدود، ولكن ليس كل منا قادراً على التبشير بحكمته.
أختم على الحكاية بالشمع الأحمر.. أخبئها فى صندوق مقفل، ثم أطرح الصندوق فى البحر.
الأسماك لا تجيد القراءة، الأمواج تمسح الذكريات والموجة التاسعة، حين ترتفع تبتلع الصندوق.. من يقرأ الحكاية؟ ومن يحفظها؟
آه يا بيتى الدافئ الذى سرقوه منى وأبعدونى،
آه، يا حلم الحب الذى أقلقوه فىّ.
إنى لأفر عائداً إليك عبر آلاف المضائق والمسارب
كما يعود الماء إلى البحر.
تقودنى الينابيع سراً بألحانها،
وتنفش طيور الأحلام ريشها الفاتن،
وتخرج طفولتى بأجراسها كما لو للمرة الأولى،
على شواطئ الضوء الذهبية وأغنية النحل الحلوة،
هناك أجدنى من جديد أنشج قرب الأم.
أقابل فى طريقى تيارات قوية، ورياح وعواصف، لكنى أستمر بالتجديف، مرهقاً، وعالماً أننى انجرفت عن المسار الذى اخترته، وأن الجزيرة التى أحاول الوصول إليها لم تعد بالأفق، لكن لا يمكننى العودة.