تحفة النُّظار في غرائب الأمصار..على خُطى ابن سودون
ابن سودون شاعر ساخر بامتياز عاش في مصر اواخر العصر الأيوبي وتوفي في دمشق.
كان يعمد إلى تحصيل الحاصل والأمور المعلومة بالبداهة فيلقيها على مستمعيه وقرائه بأسلوب فخم ولفظ جزل
مغلفةً بالدهشة والانبهار والاستغراب ثم لا يلبث القارئ أن يكتشف أن ما أورده الشاعر لا يعدو المعروف والمتداول والذي لا يحتاج
إلى تفكير وهنا المفارقة المضحكة.لكني أعتقد أن ابن سودون كان يمرر في ثنايا عبثه أو لنقلْ تحامقه غمزة أو لمزة ما
تشكك القارئ بأن هذا المجنون أو مدعي الجنون عاقل متفلسف.ومن أجمل ما تعلقتُ به من شعره همزيته:
الأرض أرض والسماء سماءُ
والماء ماء والهواء هواءُ
والناس كل الناس تنطق مثلنا
اما الخرافُ فقولها مأماءُ
كل الرجال على العموم مذكر
أما النساء فكلهن نساءُ!!
وقد أطلق على أشعاره الخراع وهو في الأصل جنون الناقة
أوإن شئتَ بلغة هذه الأيام تحشيش)!.
رحّالةٌ عبرَ الدنا بحّارُ=عَجمتْ صلادةَ عُودِه الأخطارُ
فدعِ الجزيرةَ لا تهزَّ قناتَها=فعلى لساني تُنقَل الأخبارُ
جُلُّ الحقائقِ والغرائبِ سُقتُها=فاظفرْ بكلِّ عجيبةٍ تُشتارُ
إنْ عَزّتْ الأنباءُ قِستُ بمثلِها=إن القياسَ لذي الحجا مِعيارُ
وإذا أضاءت فكرةٌ وتولّدتْ=فلطالما تتولّد الأفكارُ
فإليك من سفَري مقالةَ عالِمٍ=فالعلمُ قد جادت به الأسفارُ:
"الليلُ ليلٌ والنهارُ نهارُ"=في كلِّ يومٍ دورةٌ ومسارُ
والشمسُ واحدةٌ وقيلَ تعدّدتْ=قمرٌ هنا وهنالكم أقمارُ
فلَكٌ من الأفلاكِ غُصَّ بأنجمٍ=ولكلِّ نجمٍ في السماءِ مدارُ
وكواكبٌ عبر الأثيرِ تناثرتْ=بل للكواكبِ في الأثيرِ نِثارُ
لكنها يا قومُ قاعٌ صفصفٌ=تخلو من الحيوانِ فهْي قفارُ
إلا مرابعُ كوكبٍ مُخضَوضرٍ=لا غروَ فيه فواكهٌ وخُضارُ
فالأرضُ أرضٌ والورى سكنوا بها=ومن الورى في الأرضِ تُسكَنُ دارُ
والبحرُ يزخرُ بالمياهِ عبابُهُ=وسواه تزخرُ بالمياهِ بحارُ
وإذا رأيتَ النهرَ يجري ها هنا=فهناك أيضاً قد جرتْ أنهارُ
والناسُ تسعى مثلَ نملٍ زاحفٍ=والنملُ من سعيِ الورى مُحتارُ
لكُم الأديمُ بظاهرٍ ولنا الثرى=في بطنِه من موتِكم نمتارُ
ورأيتُ في أرضِ العجائبِ أمّةً=تشكو الجفافَ وغيثُها مِدرارُ
ما في الصوامعِ والسنابلِ حبةٌ=من حنطةٍ يرنو إليها فارُ
فسهولُها بُورٌ وما من زارعٍ=والأرضُ من غيرِ البِذارِ بوارُ
دوماً على بابِ العزيزِ تذللاً=أطعمْ قِطاطَك أيها الجزارُ
مالٌ يفيضُ على خزائنِ طُغمةٍ=حكمتْ وفي باقي الورى قَتّارُ
تختالُ في لِبسِ الشفوفِ عِصابةٌ=وكساءُ أغلبِ شعبهم أطمارُ
للهِ كم فيهم يُرى مستعبَدٌ=والأصلُ أن جميعَهم أحرارُ
والعبدُ حُرٌّ في قرارةِ نفسِه=لكنما عازَ العبيدَ قرارُ
مَوْرٌ بقلبٍ كاظمٍ حِممَ الحشا=قد يُشعلُ القهرَ الكظيمَ شَرارُ
عُودُ الثقابِ فتىً عزيزيٌّ رمى=في النفطِ سقْطاً فاستطارتْ نارُ
في كلِّ قُطرٍ قام جمعٌ حاشدٌ=أم أنها تتحشّد الأقطارُ
ويقالُ في كلِّ المدائنِ ثورةٌ=عجباً لهذا الشعبِ كيف يُثارُ
أتراه مَلَّ رئيسَه كفراً به؟=هم لا محالةَ عنده كفارُ
سبحان مَن هو دائمٌ في عرشِه=سبحانك اللهم يا قهارُ
كم طال عَقدُ نِكاحِه في شعبِه=والعُرْفُ أنّ نكاحَه مِسيارُ
ما لي أعاينُ في الشوارعِ زحمةً؟=لا شكَّ عندي أنهم ثوّارُ
وسمعتُ أن النارَ تُطلق صوبَهم=أو ربما في الجوِّ تُطلق نارُ
صدئتْ بنادقُه فجرَّب زندَها=وأمامَ زحفِ عدوِّنا فرّارُ
ويحي أقلتُ عدوُّنا؟ بل جارُنا=فسموءلٌ جاري ونعم الجارُ
تأبى المروءةُ أن نبخِّسَ حقَّه=ولديه عِرضٌ صانَه وذمارُ
وأراه يقتل واحداً لغدائه=والعُرْبُ فيهم حاتمٌ مِنحارُ
يا ديرةً سُلبتْ بكفِّ سموءلٍ=يا ليتها للسالبينَ ديارُ
حسبي هنا فقد اقترفتُ محرَّماً=ولربما تودي بيَ الأوزارُ
قل للرقيبِ شهادتي مجروحةٌ=فالعقلُ مُختلٌّ ولي أعذارُ
وهلمّ للأشعارِ نُنهي عِقدَها=فقد انتهيتُ وها هي الأشعارُ
فتعالَ نكشفْ سرَّ ما أوردتُه=فالآنَ قد تتكشّفُ الأسرارُ
أكشفتَهُ؟هذا الهراءُ بعينِه=والهذْرُ حين يسوقُه مِهذارُ!..
أنكرتُ كفّيَ تحثو فوقكِ الترُبا=للهِ ما أضيعَ الأبناءَ والأدبا
جزيتُ رُحماكِ من يُمنايَ ملتحَداً=يا خيرَ منجبةٍ والإبنُ ما نَجبا
كيف ارتضى ليَ قلبي لحدَ واهبةٍ=حياتَها لي فليت الرحْمَ ما وهبا
وكنتُ كذّبتُ عيني عند رؤيتِها=فإذْ دهى أجلٌ صدّقتُ مَن كذّبا
أزورُ قبرَكِ والأضلاعُ أضرحةٌ=جلا ساكنُها من بينِها هربا
يقود خطوي نداءٌ منكِ يصْدعُني=جازَ البرازخَ حتى مزّق الحُجُبا
أُقبّل القبرَ والأهدابُ مُخضلَةٌ=وبؤبؤٌ غرِقٌ يستصرخُ الهُدُبا
نزلتِ في حفرةٍ جدباءَ مقفرةٍ=فاهتزَّ منكِ صعيدٌ أخصبَ الجَدبا
ليهنِكَ اليومَ يا قبراً بثاويةٍ=تضوَّعَ الترْبُ من أكفانِها وربا
فأين حضنُكِ أُلقي فيه فاجعتي=ينسلُّ حزني في أثنائهِ سرَبا
حيث السكينةُ ما شابت وداعتَها=ملالةٌ تعتري من غيرِكِ القُرُبا
يا ليت لي كَرّةً أخرى إلى عمُرٍ=قضيتُ في حضنِها باكورةً وصِبا
طيفٌ أليفٌ يناغيني فأُدمنُهُ=يحتلُّ ذاكرتي بالسلمِ والعَصبا
اغيبُ مستحضِراً إياهُ في نَبَهٍ=ويُبعدُ النومَ جرحٌ كلما اقتربا
خيالُ أمي كما اعتادتْ يعوّذُني=أنّى أقمتُ وأنى سِرتُ مغتربا
يا أمِّ أذّنَ داعي الفجرِ فانتبهي=وهاك دمعي وضوءً دافئاً صَبَبا
يا أمِّ هذا أنا قد هدّني تعبي=فأين صوتُكِ يجلو عنيَ التعبا
يا أمِّ هذا فؤادي ناحباً دنِفاً=فأين كفُّكِ كي يسلو الذي نحَبا
أوّاه يا أمّ..رُزْءُ الصبرِ يعصرُني=فما يرشِّحُ غيرَ المُرِّ إنْ حُلِبا
يا أم..لا رزْءَ بعد اليومِ يفجؤني=ورُبَّ نائبةٍ تستجقرُ النُّوَبا
وكلُّ جرحٍ مع الأيامِ ملتئمٌ=إلا رغيباً بسقفِ الروحِ قد نَشبا
ثلجٌ هو الحرفُ والأبياتُ قاصرةٌ=فكيف تحملُ يحموماً إذا انسكبا
حُمَّ القضاءُ فلا عُتبى على قدرٍ=وأيُّنا خالدٌ كي يُوجبَ العتَبا
اللهُ يختارُ من نادت مشيئتُهُ=وما لعبدٍ له أن يُضمرَ الغضبا
ومِيْتةٍ كنتِ قد ذُقتِ صابرةً=ولن تذوقي مَواتاً بعد الذي كُتِبا
فأبشري وارجعي للهِ راضيةً=إني مُجِدٌّ على آثارِكم دأَبا
لا تبعدي ،أُمِّ، فالأقدارُ موعدُنا=هيهات نُخلفُها أو نختبي هربا
في ذمّةِ الله قد أودعتُ غاليتي=أنعِمْ بمستودَعٍ لا يجحدُ الطلبا.