وأجد أن الشوق، مثل نزوع الموج، يرتمى على الشطّ ممدود اليدين، بلا تحقق، مثل اندفاع الماء، مستنفدا بعد رحلة طويلة على ثبج العمر، ينكص محسورا أبدا إلى عرض اليم العميق، ولا يفتأ يعلو وينحسر، حلمه يأتى ويعود، لا يهدأ إلى راحة، وكأنه لم يترك خط النهاية المتعرج، لحظة واحدة.
أتخاصم مع نفسى، ثم سرعان ما أسعى للتصالح معها، متيحا للحياة من حولى فرصة أن تمضى فى مسارها، بعد أن توهمت أننى استوقفتها لحظة قصيرة للمساءلة. أنصت للأصوات المتنازعة بداخلى وكأننى متفرج ينصت لحشد من الشخصيات التى تتجادل داخل عرض مسرحى، محتفظا بمسافة بينى وبينها، ثم أمضى وأنا أحمل تلك المسافة بين نفسى ونفسى.
عاصفاً كالريح جئتُ
أصفُرُ بينَ الخرائب
خلال الأشجار والحجارة
بين المبانى القديمةِ نوافذُها
كعينٍ بعد عين
ترنو إلى بِيدِ الشوارع
كالريحِ فى ليلٍ ماطرٍ
بعد لواهب التراب
والأماسىِّ العواقر
أصرخ من هوجاء حبى
أشقُّ الأشجارَ والخرائبَ والشوارع
برماحٍ من مطر
جئتك يا موت جئتك،
خذها بين عينيك منّى،
أنا فارس الفوارس
وجندُك نملٌ تحت عَقِبَىّ
أرهبِ الاطفالَ بنار شدقيك!
ولئن أرهبتَ أهلَ المدينة
بالسُّحب الغضبى من منخريك
وشحذت لهم أنيابك البخراء
فى طلب العذارى،
فلن تُرهب الريحَ التى جئت فيها
منقضّاً على عظامك الحشفاء:
جئتُ كألف رمحٍ
أصرخ للشمس من وَلَهى،
وفى صدرى ألفُ حب وألف ألف حياة.
ولكنك.. وصلت، أم هجرت.. دنوت، أم نأيت.. كائنة فى الذهن، ساكنة فى الفؤاد.
تحركين القلم، وتنضرين الورق.. ولولاك يا حلوة الروح.. لجف النبع ونضب المعين.. ولما جاشت الروح فى الأسطر، وتنفست الكلمات.
حين نتخلى عن أحلامنا، نجد السكينة ونتمتع بفترة وجيزة من الهدوء، لكن الأحلام التى ماتت تبدأ فى التعفن بداخلنا، وتصيب البيئة التى نعيش بها بالعدوى.. وما كنا نأمل أن نتجنبه فى المعركة، وهو الإحباط والهزيمة، يصبح التراث الوحيد الذى يخلفه جبننا.
كل شىء يبدو قديما مغلفا بالتراب.. الحياة تبدو كالألبوم.. كل صورها تذكارات.. أهو الملل؟! أهى الوحدة؟! أهو الروتين الذى يقتل الأفراح ويقتل الأحزان؟ ربما..
إن الحانوتى يسلب الموت كل هيبته بأن يجعله وظيفته وكذلك أنا.. أسلب الحياة كل بكارتها بأن أجعلها شغلتى.. أنا لا يكفينى أن أحيا.. وإنما أتفرج على نفسى وأنا أحيا.. وأتفرج على الحياة فى عروقى.. ثم آخذ نقطا من دمى وأفحص الحياة فيها.. وأستخرج نسبة الحب.. ونسبة الخوف.. ونسبة الغضب ونسبة الفرح.. وأرص النتائج فى جداول.. وتكون النتيجة أن تضيع منى لحظاتى وأنا أحللها.. وتتحول إلى لحظات محنطة فى برطمانات.
فتش عن الكنوز، دائما، فى أبعد ركن.. فى أكثر الأوطان بُعدا، وعمقا، وظلاما.. انكفأ على نفسه كالقنفذ، ومضى فى الحُجب بعيدا جدا، لأنه كان يفتش عن علّة الخروج أصلا.
ابتعد، وانقطع، واعتزل، وسمل المقلتين بالأردية، ليعيد البصر إلى عين أفسدها نور الزيف، فعجزت عن رؤية النور الحقيقى.
صورة مصغرة للكون، كذلك كانت ساعتى: مساحتها رمز للفضاء، دورتها مسرح اللانهاية، حدودها حدود اللامكان، علامتها مقاطع الوقت الذى رتبه الإنسان، ساعاتها مقياس الأعمال، دقائقها خوف من هجوم الرزايا وترقب لوفود الآمال، ثوانيها دقات القلب.. من الثوانى يتألف الزمان ومن نبضات القلب تنسج الحياة نسجا.
آه.. ما أقسى الجدار
عندما ينهض فى وجه الشروق.
ربما ننفق كل العمر.. كى ننقب ثغرة
ليمر النور للأجيال.. مرة!
ربما لو لم يكن هذا الجدار..
ما عرفنا قيمة الضوء الطليق!!
كيف تموت اللحظات فى المدينة؟
المدينة الجبارة تفتح سواعدها العملاقة، تضم إليها لحظات الزمن، وتصهرها فى أتونها الملتهب بالشهوة. تصبغها كلها بلون واحد مستمد من ألوان المساكن الغبراء والسطوح القذرة.
هذه هى المدينة فى لحظات انتصارها، وأنانيتها، فى لحظات قهقهاتها الهستيرية فى الهيكل الإنسانى.. وعلى الصفحة الغبراء، تمر الألوان فتخلع زهوها ومرحها وجدتها، وتمضى تطن برتابتها فى آذان الزمن.