ما الذى استطاعوا تحقيقه يا أماه؟ هل حققوا هدفا واحدا مما أرادوا؟ هل قتلوا فى أهلك إرادة الحياة؟ هل سقطت الراية التى رفعناها عاليا تخفق بالعزة ومجد الكبرياء؟ هل هوت النجوم التى رصعنا بها السماء أو توقفت عن إرسال ضوئها الذى يغمر الكون بسناء الثورة؟ هل أطفئوا مشاعل الحرية التى أشعلناها فوق أرضنا؟ وكما أن النجوم لا تهجر سماءها.. والجذور لا تهجر أشجارها.. فنحن أيضا يا أماه لن نهجر ربيع الحياة فى بلادنا.. سنظل نعيش معه، ونحتفل به، ونرقص ونغنى على موسيقى الفجر الذى تعزفها أيامه الخضراء.
قال لى والدى يوما: "لا تكن رديئا كبحار يخون زميله فى البحر".. كان يعرف من تجربته، أن البحار الذى يضطجع فى الرعد، ويعصف فى الريح، وينهمر فى المطر، يحسّ وهو فى أحشاء المحنة، أنه تطهر من كل أحقاده.. يصبح تجاه الموت عاريا، كسيف بلا غمد.. فى هذه الحال، أنتظر منه كل مروءة، إنه يستطيعها ولو بتضحية نفسه.
نسكن وغناء الحياة لا ينقطع، ونغفو وأحلامها لا تزال موصولة.. وحتى حين نمسى مقهورين متطامنين تظل الحياة متربعة على عرشها عزيزة.. وحين نبكى تظل الحياة باسمة غير عابسة، وحين نرسف فى الأغلال تظل الحياة حرة طليقة.. وما أكثر ما ننعى على الحياة وندعوها بلاذع الأسماء ولكننا لا نفعل إلا حين نحس فى نفوسنا لذعا وإظلاما.. ونحن نرمى الحياة بأنها خاوية لا غناء فيها، لكننا لا نفعل إلا حين تهيم النفس فى آفاق موحشة، ويترنح القلب مثقلا بشواغل النفس.
إن من يعتقد أن الماضى لا يتغير لم يكتب مذكراته قط!.. بالفعل!.. حينما كتبت مذكراتى مررت بمرحلة أولى من التلفيق.. ثم مرحلة ثانية من تصديقى لھذا التلفيق، حتى صارت ھذه ذكرياتى فعلاً !
ماذا تريدنى أن أقول وكلماتى تصنع الدوامات فى بحيرة سكونك وسلامك؟ أنت يا صديقى تتكلم وقد وضعت أصابعك فى أذنيك وأغمضت عينيك.. وتطلب منى أن أتكلم.. ربما فقط لأعطيك جسرا تعبر عليه إلى شاطئ أمنك الموهوم.. فابق على ما تريد ودعك مما نقول!
إن عصفور الصباح يلغو.. كيف عرف بأن الفجر سينبلج، فيما يلفّ مارد الليل السماء بطيلسانه البارد الأسود؟
قل يا عصفور الصباح كيف وجد الرسول المنبثق من الشرق طريقه عبر ليل السماء وليل الاوراق حتى تناهى إلى أحلامك؟
إن العالم لم يكن ليصدقّك وأنت تصرخ: لقد أشرقت الشمس وولّى الليل.
أيها النائم، أفق.. احسر عن جبينك، انتظارا لمقدم الشعاع الاول المبارك من النور، وغنّ مع عصفور الصباح فى تدفّق طروب.
كانت ألحان الحب التى وضعتها قبل أن أحبك جوفاء خاوية.. فلما أحببتك جاشت فىّ ألحان الروح وفاضت بالحياة.. كنت أحس فى كل لحن أنى أناجيك به.. وكنت أستمد أنغامى من تردد أنفاسك، وبحة همستك ورنة ضحكتك.. كانت تلك سلالمى الموسيقية.. ووحيى المنزل.
رب لحن يا نائية سرقته من هبة نسيم خلتها تحمل فى الليل أنفاسك.. ورب نغم بعثه فى نفسى حفيف أوراق خلته حفيف ثيابك، أو طرق هادئ خلته فى دجى الليل وقع خطاك.
لقد تكشف لى اليوم حقيقة بسيطة رائعة لا أدرى كيف غابت عنى طوال عمرى الذى أنفقته فى جمع المال فى نهم لا يشبع وجشع لا يقنع.. وجدت أن الأفكار هى ميراث البشرية، وأن كنوز الذهب وشهوات الناس تتبدد كالأوهام، وأنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.
رويدا رويدا
أحاول الخروج
ظلام وعثرات
خوف وأمنيات
صلاة ودعاء
وهمس مدوى
أتلمس الطريق
خشونة الجدران
تدمى أصابعى
وبلل الطريق
..يقشعر له بدنى
لكنى أواصل
أواصل الخروج
نحو النور
هناك حيث
تركت ذاتى
أواصل المشى والصلاة
أغمض عينى
فأبصر ذلك النور
أبصر شمسا
فى آخر النفق
أركض حثيثا
يتلوى النفق
تختفى الشمس
وينطفئ
نور النفق
لكني سأواصل
الطريق رويدا رويدا
حتى آخر النفق