عرفت كل شىء إلى الحد الذى صرت فيه لا أعرف شيئا.
وشربت كل الأنهار حتى قتلنى العطش.
وأحببت كل الصور وغاب عنى أن أرفع تنهيدة حب واحدة إلى المصوّر.
من حق الحياة أن أدفع الثمن.
أضاعنى ما أضاع صيادا كان يجرى فى الصحراء وراء ظل لطائر يسبح فى السماء، متصورا أن الظل هو الطائر، وكلما أهوى الصياد بنفسه على الأرض محاولا إمساك الظل تطايرت الرمال ودخلت فى عينيه فدمعت عيناه.
ويرى الصياد أحد الزاهدين فيرق لحاله، ربما قال فى نفسه:
- تُرى.. ما الذى يبكيه هذا الرجل الطيب.. أتراه مثلى عاشقا للحق؟!
لا يعرف الزاهد أن الرجل لا يبكى.
لا يدرك سر الرجل غير ذرات الرمال التى دخلت فى عينيه.. لا يرى الزاهد غير صورة الظاهر، بينما يعاين الحق حقيقة الباطن.
عذرى أننى لم أكن أعرف.. لم أكن أفهم.. لم أكن أدرى.
إلا أننا كبشر لا نستطيع أن ننتظر عدالة السماء حتى تتحقق على مهلها.. لابد لنا من وضع قوانين نخضع جميعا لها ونجتهد فى تطبيقها حتى تنتظم الحياة وتصبح صالحة للعيش. فلنطبق عدالة الأرض كما نفهمها، ولا نفقد ثقتنا فى عدالة السماء. فإن توافقت العدالتان فخير وبركة، وإن ضلت العدالة الأرضية سواء السبيل، ففى عدالة السماء إنصاف للمتهم وللقاضى على السواء.. وإذا كان البعض منا يتصور أن عدالة السماء بالها طويل، وقد تتأخر طويلا، فإننى أتصور العكس تماما، فكثيرا بل كثيرا جدا ما تكون عدالة السماء أسرع من بطء المحاكم الأرضية، بل إنها كثيرا ما تجىء فورية فى وقتها المناسب، بل أحيانا تكون هى ردة الفعل المباشرة.
لا وطنية.. ولا دين.. ولا مبادئ.. ولا شىء من هذا كله يمكن أن يكون سبب النزاع البشرى.. إنها كلها مسميات براقة تستر وراءها الداء الأصلى.. وهو الطمع والأنانية
ما يميت الحب ليس القـِران. ما يميت الحب هو روح الملكية التى تتمكن من كل قـِران.
أرواح الأفاضل حية حتى لو صار أصحابها فى عداد الأموات، وأرواح الأراذل ميتة حتى لو كان أصحابها على قيد الحياة.
الغربة لإنسان امتلك الوصيّة: وطن.. والوطن لإنسان فقد الوصيّة: غربة.
مأساة الدنيا أن الذين يتولون أمرها لا يفكرون، والذين يفكرون لا يتولون أمرها.
كثيرا ما نذهب بالفرار من الأشياء، إلى تلك الأشياء التى نفر منها.
أكثر الحقائق سِحرا حقيقة نحدسها ولا ندركها.
الإنسان العظيم عظيم حتى الساعة التى يحسب فيها نفسه عظيما.
أنفس الأشياء جوهرا، الأشياء التى لا ندفع للحصول عليها ثمنا.
نهب أنفسنا للناس فيُنكرنا الناس.. نهب أنفسنا للطبيعة فتهبنا الطبيعة نفسها.
على شط بحر الأيام سرت مع السائرين.. ومن منهل الغبطة المتدفق فىّ سكبت تعزية.. ومن الشمس المنيرة فى جناتى وزعت أنوارا على الذين معى من السائرين.. وزعت من شمس جناتى أنوارا ومن منهل غبطتى تعزية على المحزونين من السائرين.
فى الأمسيات، تأتى الرياح فتكنس الأمانى المحنطة والأحزان القديمة، ويبقى فى هذا المنزل الكبير شىء ما لا يعرفه أحد.. وفى الردهات الطويلة، وعلى السلالم وخلال فراغ الحجرات العالية السقوف، يتحرك الضجر، يأتى الليل، وتنام العيون، ولا يبقى لنا سوى رماد الذكريات، وبقايا كلمات هامسة قيلت خلال النهار، وأحلام مدفونة فى حبة القلب، استيقظت ثم ماتت.. يتحول الليل بطوله، إلى محاولة كى تطيل، حبال الصبر.
وعندما أقول هذا أعرف أننى أكسر كل قواعد اللعبة. نعم، هى لعبة، الحياة، والحب أيضا.. كل ما فيها له قواعد وأصول.. أنا أرفض أصول اللعبة.. أغامر، أضع قلبى كله، عاريا، مرتجفا بنبضه، عنيدا بإيمانه، تحت وطأة الانكشاف، دون حماية. ما الذى يحدث عندما تنهار الحواجز والسدود وتندفع الأمواج المحبوسة القلقة المحوّط عليها، داخل المقاصير المسوّرة، وتجرى متلاطمة تحمل معها أنقاض الاحجار؟ أهذا مخيف؟ نعم، أعرف دفء الظلمة المكنونة، وحماية السرّ، لكننى أعرف أيضا مُر الوحدة خلف الأسوار
هذيان المطر يتواصل، الغيوم عباءات يشق سوادها التماع البرق. والريح مهتاجة تجتث مناجلها رؤوس الأعشاب. وتطاير ريش العصافير اللابدة تحت مظلات النوافذ.
هى خلف الزجاج المزخرف بخرائط القطرات. تلصق وجهها على سطحه البارد، عيناها مركزتان على اللبلابة الناتئة من قلب الأرض. متسلقة خيطها إلى حافة السطح، تأملتها، تفرست بأوراقها الخضراء النامية، وتلك الصغيرة المندسة بين الفروع كأطفال يندسون فى حضن الأم، يحتمون من البرد ومن أحلامهم المرعبة، الريح تحاصرها، تحاذى الزجاج تصفقه، كمن تود اقتحام الغرفة بحثا عن الدفء والأمان. أثارت اللبلابة المتأرجحة شفقتها، همست بسرها: "لا حماية لك داخل غرفتى.. لو كنت مكانى لعرفت كيف يكون للغرف المغلقة صقيعها الحارق".
فالسعيد يشقى بسعادته لأنه يحتاج منها إلى أكثر مما ينال، والشقى يسعد بشقائه لأنه يجد هذه اللذة البغيضة التى يشتقها من الغيظ لنعمة التاعم، وترف المترَف، والتى يمكن أن تسمى حسدا. ولكلا هذين الامرين اسم بغيض فى الاخلاق، فشقاء السعيد بسعادته بطر، وسعادة الشقى بشقائه حسد.
دائرة لا تظهر أمام عينيك ولا تلمس.. تحس بأصابعها الغازية تمتد وراء ظهرك وتسحب بساط الزمن.. وتقف أنت هناك لا ملتفتا إلى الوراء ولا ناظرا إلى أمام، فأنت هارب من الضجر وكاره أن تموت. الماضى، الحمل الثقيل الذى لا تعرف أين تطرحه!