لكنه الصوت العصى، الصوت الذى لا أستطيع غناءه.. سأظل أغنى حتى أجده، مبحوحا ثقيل القلب. لو أننى كففت، لو أننى وقفت، إننى إذن سأسقط ميتا.. لم أكن أتصور أبدا أننى أملك القدرة على استمراء العذاب، والتعلق بالوهم الكامن مخبوءا خلف الحقائق الصقيلة السطوح الحادة الزوايا.. كأننى أقول: ما ضر لو امتلك القلب كبرياء الظن بعد أن استحال كبرياء الحقيقة؟
إننى أحب الصمت، لكى أفر من نفسى إلى نفسى.. ولكن بعيدا، بعيدا عن البشر، وعن حياة البشر.. تلك الحياة التى تلفظ الملايين من المخلوقات الغريبة فى سحب من الضجة والطنين، والسخف والحيرة والضلال، فى سيول هادرة متدفقة، تتصاعد فى لجّة من الأبخرة المتلاشية.. قد نجد فى طيات هذا الغمار شيئا يتمثل فيه الجمال.. كزهرة، أو لمحة، أو عَبَق.. ولكن سرعان ما يطغى الموج المصطخب لكى يبعثره هنا وهناك، وينثر الحياة كلها، زبدا متطايرا تذروه الرياح وقطرات متساقطة تبتلعها الرمال.
الناس يعاملونه كغريب عنهم، لأنه - فى الحقيقة - غريب عنهم، إنه رجل الوهم، رجل عائش فى الضباب، وليس الرجل العائش فى الحقيقة كما وصف الفرعون إخناتون نفسه، إنه غريب صنع مظلة من سحابات أوهامه ليهبط بها على الأرض، لكنه سيهبط ويهبط دون أن تلامس قدماه أرضا أبدا، ربما لأنه لم يكن واقفا على أرض من قبل.. إنه يريد أن ينتمى فى زمان بات الناس لا ينتمون فيه حتى إلى أنفسهم.
وأيا ما يكون الأمر فقراءة الشىء غير مشاهدته وغير الاستماع إليه لأن القارئ حين يقرؤه يجده نابضا بنبض الكاتب ورؤيته.. فلست حكاء أروى لك الخبر دون أن أنفذ إلى العميق من أغواره ثم أنا ألف حوله وأدور فأرى ما يحيط به من كل جانب، فأنت لن تقرأ حديثا هامدا لا حياة فيه ولا حركة.. فليست القصة أو الرواية مجرد مجموعة من الأحداث أو من ملامح الشخصيات أو تطور التآلف بين الحدث والشخص، وإنما القصة أو الرواية هى رؤية فنان وهى حياة كاملة ولعلها الحياة الوحيدة فى الحياة التى نعرف سرها، فسر الحياة لا يعلمه إلا الله.
وهذا الأسلوب من الحكمة الكاملة لا يمكن أن يوجد إلا فى الملأ الأعلى حيث لا يستطيع الشر أن يرقى.. وقد خلق الله ما لا يعين من العوالم ليس منها واحد يشبه الآخر. وهذا الاختلاف العظيم آية على قدرته التى لا حد لها، فليس من ورقتين فى الأرض ولا كرتين فى حقل السماء تشبه إحداهما الأخرى.. وكل ما تراه على هذه الذرة الضئيلة التى ولدت عليها قد قدر له مكانه تقديرا حسب النظام الثابت الذى أبدعه القادر على كل شىء
يسجل فارس النور بيقين تام، أن ھناك لحظات تكرر نفسھا.. غالبا ما يجد نفسه فى مواجھة مشكلات ومواقف سبق له أن واجھھا، فيشعر لحظتھا بالإحباط، ويتصور نفسه عاجزا عن التقدم فى الحياة، مادامت نفس الصعوبات قد عادت من جديد.. ويشتكي لقلبه: "لقد مررت بكل ذلك من قبل".. فيرد عليه قلبه: "حقيقة أنت عشت كل ذلك، لكن لم تتجاوزه أبدا"..
وعندئذ يدرك فارس النور أن تكرار التجارب لھا ھدف وحيد: تلقينه ما لم يتعلمه بعد.
العلم مفتوح الذراعين لكل الحقائق..
العلم لا يخجل من مناقشة الوهم والهذيان والخرافة.. لأن المعرفة غير المحدودة قانونه، والتواضع خلقه..
العقل لا يخشى اللامعقول.. والإرادة لا تعرف المستحيل.
كل شىء فى فراق دائم، المولود يفارق الرحم، الإنسان يفارق من دنيا إلى آخرة مجهولة بلا آخر، البصر يفارق العين إلى المرئى، ثم يفارق المرئى إلى البصر، الليل يفارق النهار، والنهار يفارق الليل، والساعة تفارق الساعة، والدهر يفارق الدهر، الذرة فى فراق دائم عن الذرة، الجسد يعانق الجسد ثم يفارق، تنبت الأوراق غضة خضراء، ثم تفارق الأغصان، الفكرة لا تلحق بالفكرة، والصورة لا تمكث فى الذهن، يجىء شتاء، ويجىء صيف، ثم ربيع، ثم خريف، كل يفارق إلى حين، كل فى فراق دائم، الذات تفارق الذات، حتى الأشياء التى ظننا أنها باقية أبدا، حتى الأيام التى اعتقدنا أنها لن تتبدل قط ولن تتغير ولن تزول، كل شىء، كل شىء فى فراق، كل شىء يتغير، كل شىء يتغير.. فلنفهم!
وكنت أنتِ نجمتى التى تعلم، قبل ليلة اللمعان، أى رجال الأرض سيتبعها إذا نزلت، ويموت إذا أفَلَت.. ولم أكن أعلم أن عشق النجوم صعب، لأنها لا تبقى.. ولكنه قدرى.
لا يكون الحب قرارا أبدا، إنه الشىء الذى يختار اثنين بكل دقة، ويشعل بينهما فتيل المواجهة، ويتركهما فى فوضى المشاعر دون دليل.. إنه يريدهما بذلك أن يتعلما أول دروس الحب.. كيف يحتاج كل منهما إلى الآخر
فى أعلى المكتوب دمعة، وفى آخر سطر نُدبة.. أحشر ذاتى فى زاوية هذا الشعور الضيق.. برد، وكل ما أطرى البرد يذبل فى صدرى نبض.. أنا هنا وبيدى قائمة من أرق، أمتن لمجيئك وكل ما فيك نفيس، قيمة المكان بالأرواح التى تسكن فيه، أحضر برفقة حروف تخصّك، اعزفى لحنك الجميل ودعى الكلمات ترقص، لن نتوقف عن الهمس حتى نُكمل قصتنا، منذ الميلاد حتى آخر نبضة، وكأن قدرنا أن نعيش حتى نكتب، أو نكتب لنعيش الحياة مرتين.